أجرى الرئيس الإيراني "إبراهيم رئيسي" في 3 مايو 2023، زيارة تستغرق يومين إلى العاصمة السورية دمشق على رأس وفد وزاري رفيع المستوى، التقى خلالها بنظيره السوري بشار الأسد، وعقد خلالها الجانبان مباحثات موسعة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، نجم عنها إبرام مذكرة تفاهم لخطة التعاون الاستراتيجي الشامل طويل الأمد بين البلدين في مجالات الزراعة، والسكك الحديدية، والطيران المدني، والمناطق الحرة، والنفط، ومذكرة تفاهم بشأن الاعتراف المتبادل بالشهادات البحرية بين البلدين، وهو ما يعكس رغبة البلدين في تطور العلاقات السورية الإيرانية بمعدل غير مسبوق، يقضي برفع مستوى الشراكة الاستراتيجية على الصعد كافة السياسية، الاقتصادية، وأيضًا العسكرية.
ترحيب واسع:
إن اللافت في هذه الزيارة، أمران، أولهما، الترحيب الواسع الذي حظي به الرئيس الإيراني "إبراهيم رئيسي" عند استقباله، وارتفاع الأعلام الإيرانية خاصة على طول الطريق المؤدي إلى منطقة السيدة زينب جنوب العاصمة دمشق، هذا بجانب إزالة الحواجز الضخمة من أمام السفارة الإيرانية في دمشق بعد سنوات من إقامتها، إضافة إلى رفع صور لرئيسي البلدين، وكتب عليهم عبارات ترحيب باللغتين العربية والفارسية، أما الأمر الثاني، هو احتفاء الصحف الإيرانية بهذه الزيارة، بعناوين مثل، "شرق أوسط جديد"، "زيارة تحمل رسالة الانتصار".
توقيت الزيارة:
تأتي هذه الزيارة التي تعد الأولى من نوعها لرئيس إيراني إلى العاصمة دمشق منذ اندلاع الأزمة السورية في عام 2011، بالتزامن مع جملة من التطورات الإقليمية التي شهدتها كل من طهران ودمشق خلال الفترة الأخيرة، يأتي من أبرزها، ما يلي:
(*) جهود عربية لإعادة سوريا لمحيطها العربي: جاءت تلك الزيارة في ظل جهود قادتها بعض الدول العربية كمصر والأردن والجزائر والإمارات والسعودية خلال الفترة الأخيرة لإعادة سوريا إلى محيطها العربي، ودفعها للمشاركة في القمة العربية المزمع انعقادها في 19 مايو الجاري بجدة، وقد تكللت هذه الجهود بالنجاح في 7 مايو الجاري، إذ أعلن اجتماع لوزراء الخارجية العرب في العاصمة المصرية القاهرة، إعادة سوريا لشغل مقعدها في جامعة الدول العربية بعد غياب دام 12 عامًا، كما أنها تأتي بعد إعلان كل من السعودية وسوريا أواخر مارس الماضي، إعادة فتح سفارتيهما بعد مرور أكثر من عقد على قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وهو الإجراء المتوقع حدوثه في مايو الحالي أو يونيو المقبل.
(*) تحسن العلاقات بين طهران ودول الخليج: جاءت تلك الزيارة بالتزامن مع تطور كبير على مستوى العلاقات بين إيران وعدد من الدول العربية وخاصة السعودية والإمارات، ففي 10 مارس الماضي، وقعت طهران والرياض برعاية صينية على اتفاق قضى بعودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بعد قطيعة دامت سبع سنوات، وهو الاتفاق الذي رحبت به دول عدة، لرؤيتهم أنه سيسهم في حلحلة بعض أزمات المنطقة، خاصة سوريا، واليمن، إضافة لذلك، ومن جهة، فقد تحسنت العلاقات الإماراتية الإيرانية، وبعد إعادة أبوظبي لسفيرها إلى طهران في أغسطس الماضي بعد ست سنوات من سحبه، فقد أعلنت الأخيرة في مطلع أبريل الماضي تعيين سفير لها في الإمارات بعد سبع سنوات من توتر العلاقات بين البلدين.
(*) تصاعد حدة التوتر بين إسرائيل وإيران: كان لافتًا أن هذه الزيارة تأتي في ظل تجدد التوتر بين إيران وإسرائيل وعودته إلى الواجهة، ففي مطلع فبراير الماضي، وقع هجوم بطائرات مسيرة على موقع تابع لوزارة الدفاع في محافظة أصفهان بوسط إيران، وقد اتهمت الأخيرة، إسرائيل بالوقوف وراء هذا الهجوم الذي كان يهدف لتخريب أحد أهم المراكز الصناعية المتخصصة في إنتاج وتطوير الصواريخ في إيران، وهددت إيران برد قوي على هذا الهجوم، خاصة بعدما كشفت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية، وقتها، أن إسرائيل نفذت غارة سرية بالدرونز لاستهداف مجمع دفاع بالأراضي الإيرانية، من أجل احتواء طموح طهران النووي والعسكري.
دوافع الزيارة:
في ضوء التطورات السالف ذكرها، فإن إيران تسعى من وراء هذه الزيارة إلى تحقيق أهداف عدة، ويمكن تسليط الضوء على أبرزها على النحو التالي:
(&) التأكيد على استمرار الدعم الإيراني: إن الهدف من زيارة الرئيس الإيراني بعد إعادة بلاده للعلاقات مع السعودية وبعد إعلان الأخيرة عن استئناف العلاقات الدبلوماسية مع سوريا، يأتي في إطار رسالة مفادها، أن إعادة العلاقات السعودية الإيرانية لن يؤثر بشكل سلبي على تعاون طهران مع دمشق، وأن الأولى ستظل الحليف الاستراتيجي لسوريا، فقد أكد وزير الخارجية الإيراني "حسين عبداللهيان" الذي رافق "رئيسي" في زيارته، أن "هذه الزيارة تعد نجاحًا لدبلوماسية الحكومة الإيرانية في استكمال عملية التكامل الإقليمي"، وهو الأمر الذي يعني أن طهران تريد تعزيز حضورها الإقليمي في المنطقة من خلال سوريا.
(&) تعزيز التعاون العسكري لمواجهة إسرائيل: عانت الجمهورية الإيرانية خلال الفترة الماضية، من استهدافات لعدد من المنشآت العسكرية والنووية بها، وفي كل مرة كانت توجه الاتهام إلى إسرائيل بالضلوع في هذه الهجمات التي تهدد منشآت إيران النووية وتسعى لتقليص النشاط النووي الإيراني ومنعها من إنتاج وتطوير الصواريخ، خاصة بعد أن توقفت مفاوضات إحياء الاتفاق النووي في فيينا ووصلت إلى "طريق مسدود"، فضلًا عن أن طهران أعربت عن تخوفها مؤخرًا من إعلان إسرائيل عن اقترابها من الحدود الإيرانية بشكل كبير، وهو ما ترجمه تصريح إعلامي للرئيس الإيراني في 3 مايو الجاري، أكد فيه أن أي محاولة لإسرائيل لارتكاب ما وصفه بـ "حماقة" ضد إيران سيقابله رد قاسٍ، مشددًا أنه " لن يبقي هناك شيء باسم الاحتلال وخطوتنا ستكون بمنزلة اضمحلاله وإزالته"، ولذلك فإن وجود "محمد رضا آشتياني" وزير الدفاع الإيراني ضمن الوفد المرافق لـ"رئيسي"، يؤكد رغبة طهران في تعزيز وتطوير التعاون العسكري مع سوريا وتوفير أقصى حماية ممكنة لإيران من أي محاولات إسرائيلية لاستهدافها.
(&) تأكيد المشاركة الإيرانية في عملية إعمار سوريا: خلال الفترة الماضية، أبدت الجمهورية الإيرانية استعدادها من أجل المشاركة في عمليات إعادة إعمار الأراضي السورية، وهو ما سبق وأشار إليه المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية "ناصر كنعاني" في تصريح لوكالة الأنباء الإيرانية الرسمية في 2 مايو الحالي، قائلًا إن "سوريا دخلت مرحلة إعادة التعمير، وإيران جاهزة لتكون مع الحكومة السورية في هذه المرحلة أيضًا.. كما كانت إلى جانبها في القتال لمواجهة الإرهاب"، وهو ما يفيد بأن طهران تسعى للحصول على النصيب الأكبر من عمليات إعادة إعمار سوريا، بمعنى أن تكون الأولوية للشركات الإيرانية في هذا المجال، وذلك للحصول على مزيد من المكاسب، آملا بالمساهمة في النهوض بالاقتصاد الإيراني الذي يعاني من تدهور جراء العقوبات الأمريكية المفروضة على البلاد، ولذلك تريد طهران تحصيل عوائد دعمها للحكومة السورية والتي تقدر بما يقرب من 20 إلى 30 مليار دولار، وفقًا لما أعلنه "حشمت الله فلاحت بيشة"عضو لجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني، في مايو 2020، قائلا، " أكرر مجددًا، أننا ربما قدمنا لسوريا ما بين 20 إلى 30 مليار دولار، وعلينا استعادة هذا المبلغ من سوريا، لأن أموال شعبنا أنفقت هناك"، ولذلك فإن الرئيس "رئيسي" كان حريصًا خلال هذه الزيارة ومن خلال الوفد الذي شمل في جزء منهم، وزراء الاتصالات، والنفط، الطرق وبناء المدن، في إبرام مذكرة تفاهم شملت التعاون الاستراتيجي بين البلدين بمختلف المجالات.
(&) تعزيز النفوذ الاقتصادي الإيراني في سوريا: ترغب طهران من خلال هذه الزيارة وبعد حث الطرف السوري على أن تكون الجمهورية الإيرانية من أبرز الدول المعنية بإعادة إعمار سوريا، في تعزيز نفوذها الاقتصادي على الدولة العربية، ولذلك قبل أيام قليلة من زيارة الرئيس الإيراني لدمشق، فقد أجرى وزير الطرق بحكومة رئيسي "مهرداد بازارياش" مباحثات فنية بالعاصمة دمشق مع وزير الاقتصاد السوري "محمد سامر الخليل" في إطار اللجنة الاقتصادية السورية-الإيرانية، نجم عنها توقيع عدد من الاتفاقيات الاقتصادية في مجالات السياسة والكهرباء والتجارة والسكك الحديدية.
(&) إعادة إحياء دبلوماسية الطرق بين دمشق وطهران: في ظل الأوضاع التي يشهدها العالم، خاصة بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية وتأثيرها بشكل سلبي على اقتصاديات الدول وسوق النفط العالمي، فإن طهران تسعى لاستغلال تدهور العلاقة بين روسيا والدول الأوروبية وتعزيز علاقاتها بشكل أكبر مع حليفها الروسي، ولذلك، فإن إيران تسعى جاهدة من خلال هذه الزيارة إلى إكمال خط السكك الحديدية الذي يربط كلَا من إيران والعراق وسوريا، بما يسهم في ربط هذا الممر شمال إيران إلى جنوبها، لتحسين موقعها في الساحة التجارية وتعزيز العلاقات التجارية مع مختلف بلدان العالم وخاصة روسيا، ولذلك كانت اتفاقية "ربط خطوط السكك الحديدية الإيرانية بالبحر المتوسط" محور بحث الرئيس الإيراني ونظيره السوري في هذه الزيارة، فضلًا أن طهران سبق وأبدت رغبتها في الحصول على أقصى منفعة ممكنة من ميناء اللاذقية السوري الذي من خلاله يمكن ربط إيران بأوروبا عبر المتوسط، وأعلن وزير الطرق الإيراني خلال اجتماع مع وزير النقل السوري "زهير كاظم" أواخر أبريل الماضي، عن" زيادة طاقة التحميل والتفريغ في موانئ اللاذقية وطرطوس في سوريا، وإفادة حركة النقل البحري بين إيران وسوريا بما يصل إلى 10 ملايين طن من البضائع في السنة".
تأسيسًا على ما سبق؛ يمكن القول إن زيارة الرئيس الإيراني "إبراهيم رئيسي" إلى سوريا في هذا التوقيت، وبعد أن تأجلت عدة مرات، تعكس رغبة إيران في التأكيد على دورها في مساندة الحكومة السورية، وتعزيز روابطها السياسية والاقتصادية والعسكرية داخل دمشق، لتحسين أوضاع البلاد الاقتصادية والتجارية من ناحية، ولمواجهة أي تهديدات قد تطال الأراضي الإيرانية من خلال إسرائيل من جهة أخرى، هذا بالإضافة أن إيران ترغب في التأكيد على أنها ستظل "الحليف الاستراتيجي" للحكومة السورية.