على وقع التحولات بالمشهد السياسي الداخلي والحصار الدبلوماسي الصيني للجزيرة، بدأت رئيسة تايوان في 29 مارس 2023، جولة لحلفائها في أمريكا الوسطى للاطمئنان إلى استمرار دعم حلفائها في بيليز وجواتيمالا، شملت زيارة عبور للأراضي الأمريكية، التقت خلالها، كيفين مكارثي، رئيس مجلس النواب الأمريكي، على رأس وفد من الحزبين الديمقراطي والجمهوري في 5 أبريل الجاري بمكتبة رونالد ريجان الرئاسية بولاية كاليفورنيا، في أول استقبال من نوعه من مسؤول أمريكي رفيع لزعيم تايواني على الأراضي الأمريكية منذ عقود.
وجاءت الجولة بعد أيام من إعلان تطبيع العلاقات بين الصين وهندوراس في 26 مارس الماضي، التي ألغت اعترافها بتايوان والتزمت بمبدأ الصين الواحدة؛ ليتقلص عدد الدول التي تعترف بالجزيرة إلى 13 دولة فقط.
وفي ظل وقف المحادثات بين تايبيه وبكين منذ وصول رئيسة الحزب الديمقراطي التقدمي تساي إينج-وين للسلطة في يناير 2016، أجرى كبار المسؤولين من حزب الكومنتانج المعارض، زيارات إلى البر الرئيسي الصيني والتقوا مسؤولين رفيعي المستوى؛ لبحث تهدئة التوترات بين جانبي مضيق تايوان ومنطقة بحر الصين الجنوبي.
ويأتي استمرار التوتر قبيل انتخابات حاسمة على رئاسة تايوان في يناير 2024 تغيب عنها الرئيسة تساي إينج-وين، والتي تخلت عن زعامة الحزب الديمقراطي التقدمي الحاكم، بعدما مُني بهزيمة كبيرة أمام الكومنتانج في الانتخابات المحلية نوفمبر 2022.
دلالات جوهرية:
على ضوء زيارة رئيسة تايوان تساي إينج-وين، إلى أمريكا الوسطى التي بدأتها في 29 مارس 2023 وتستمر 10 أيام، تتضمن زيارة عبور في نيويورك، قبيل لقاء مرتقب مع رئيس مجلس النواب الأمريكي، كيفين مكارثي، يوم الأربعاء 5 أبريل الجاري، وسط تحذيرات صينية من مواجهة خطيرة في العلاقات الأمريكية الصينية، ويُمكن عزو التوتر المتصاعد بشأن ملف تايوان إلى التطورات التالية:
(*) حصار دبلوماسي: جاء تدشين العلاقات الدبلوماسية بين الصين وهندوراس في 26 مارس 2023، ليضفي مزيدًا من التعقيد على مشهد المعركة الدبلوماسية لتقويض مساعي استقلال تايوان التي تحظى باعتراف 13 دولة فقط، هي (إسواتيني والفاتيكان وهايتي وتوفالو وناورو وسانت كيتس وسانت لوسي وسانت فينسان وجزر مارشال وبالاو وبيليز وجواتيمالا وباراجواي)، مُقابل 182 دولة تعترف بتايوان كجزء من الصين الواحدة.
وتدور المعركة الدبلوماسية بين بكين وتايبيه بصورة أساسية في أمريكا اللاتينية وإفريقيا، بعدما نجحت الصين بفعل علاقاتها الاقتصادية والتجارية المتنامية في القارة الإفريقية بتقليص عدد الدول التي تعترف بتايوان دولة واحدة من إجمالي 4 دول قبل 10 سنوات، بعدما قطعت كل من جامبيا (2013)، وساوتومي وبرنسيب (2016)، وبوركينا فاسو (2018) العلاقات مع تايوان. ومنذ 2007 وحتى 2023 فقدت تايوان اعتراف 5 دول بأمريكا الوسطى بها، وهي كوستاريكا (2007) وبنما (2017) وكل من الدومينيكان والسلفادور (في مايو وأغسطس 2018)، وأخيرًا هندوراس (2023).
ويُثير حفيظة الصين الانخراط الأمريكي المتزايد مع تايوان عبر الدعم العسكري المُتمثل في تقديم أسلحة أمريكية للجزيرة، والدعم السياسي، مثل زيارات المشرعين الأمريكيين والغربيين إلى تايبيه، خاصة منذ زيارة، نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأمريكي السابقة، في أغسطس ولقاء رئيسة تايوان مع رئيس مجلس النواب الحالي، كيفين مكارثي، في 5 أبريل 2023 بولاية كاليفورنيا، وكذلك الدعم الاقتصادي ممثلًا في المفاوضات الجارية لتوقيع اتفاق تجاري بين الولايات المتحدة وتايوان.
(*) تحولات المشهد السياسي: أسفرت نتائج الانتخابات المحلية التايوانية التي جرت في أواخر نوفمبر 2022 عن سيطرة حزب المعارضة الرئيسي، وهو الحزب القومي الصيني "الكومنتانج" على 13 بلدية ومقاطعة (من بينها العاصمة تايبيه) من إجمالي 21 مقاطعة، مقابل 5 بلديات للحزب الديمقراطي، وحظي حزب شعب تايوان ببلدية واحدة، وذهبت بلديتان أخريان لمستقلين. وقاد ذلك لاستقالة رئيسة تايوان تساي إينج-وين من زعامة الحزب؛ ليخلفها نائب الرئيس لاي تشينج-تي في زعامة الحزب ليكون المرشح الأبرز في انتخابات رئاسة يناير 2024.
جاء التحول في تايبيه، بعد شهر من انعقاد المؤتمر العشرين للجنة المركزية بالحزب الشيوعي التي عزز من خلالها الرئيس، شي جين بينج، سُلطته داخل الحزب وقيادته للقوات المسلحة، وانتخابه لولاية رئاسية ثالثة في مارس الماضي، لمدة 5 سنوات مقبلة على الأقل. الرئيس الصيني جدد خلال المناسبات الحزبية والرسمية المختلفة، عزم بلاده ضم تايوان إلى البر الرئيسي بالوسائل السلمية، دون أن يستبعد ضمها بالقوة إذا مضت تايبيه باتجاه الاستقلال تحت قيادة الحزب الديمقراطي التقدمي.
(*) تقارب الكومنتانج والحزب الشيوعي: بالتزامن مع زيارة تساي إينج-وين، إلى أمريكا الوسطى، توجه زعيم حزب الكومنتانج والرئيس السابق، ما يينج جيو، على رأس وفد من الأكاديميين وطلاب الجامعات في 28 مارس الماضي، إلى البر الرئيسي الصيني في زيارة تستمر لمدة 12 يومًا، بهدف تخفيف التوترات على جانبي المضيق. ونقلت وكالة "شينخوا" عن "جيو" قوله خلال لقائه ووفد طلابي تايواني في جامعة هونان في 2 أبريل 2023 "إن أبناء الوطن في تايوان والبر الرئيسي يتشاركون الثقافة نفسها والهوية القومية نفسها"، مُشيرًا إلى أنه من الضروري جدًا أن يلتزم جانبا المضيق بمبدأ "الصين الواحدة". وخلال الزيارة الرمزية للزعيم، زار جيو قبر، مؤسس جمهورية الصين الوطنية وحزب الكومنتانج، سون يات صن.
الزيارة ليست الأولى من نوعها لمسؤول رفيع في حزب الكومنتانج، إذ زار، أندرو هسيا، نائب رئيس الحزب المعارض في تايوان البر الصيني الرئيسي، على رأس وفد حزبي، في الفترة من 8 حتى 17 فبراير 2023، إذ التقى في بكين رئيس مكتب شؤون تايوان في مجلس الدولة الصيني، ورئيس مكتب عمل تايوان باللجنة المركزية في الحزب الشيوعي الصيني، سونج تاو؛ سعيًا لتخفيف حدة التوتر على جانبي مضيق تايوان. ونقلت صحيفة جنوب الصين الصباحية عن "هسيا" في بداية اللقاء، أنه ناقش مع الجانب الصيني تعزيز وصيانة الاتفاقات السابقة بين بكين وتايبيه، وفعل ما بوسعه؛ لتعزيز التعاون عبر مضيق تايوان وإنهاء التوتر بين الجزيرة والبر الصيني.
حسابات انتخابية
على وقع التقارب بين الحزب الكومنتانج، حذرت حكومة الحزب الديمقراطي التقدمي من اتفاقات تحت الطاولة بين الكومنتانج والحزب الشيوعي الصيني، خاصة أن بكين اعتبرت انتخابات نوفمبر استفتاءً شعبيًا على رغبة سكان الجزيرة في توثيق العلاقات مع بكين، في ظل جهود حزب الكومنتانج بالحفاظ على التقارب مع البر الرئيسي والتزامه بمبدأ "الصين الواحدة" في إطار إجماع 1992 تحت قيادة الكومنتانج.
وتبدو تحركات الصين تسير في اتجاهين متكاملين لتجسيد سياسة "الصين الواحدة" وأولهما؛ خلق إطار للردع عبر تصعيد مناوراتها وتدريباتها البحرية والجوية في محيط مضيق تايوان؛ لتأكيد عزمها على ضم تايوان دون الدخول في صراعات مع الجزيرة أو حلفائها في الولايات المتحدة، والذي برز في اقتراب حاملة الطائرات شاندونج ومجموعتها القتالية مسافة 200 ميل جنوب شرقي الجزيرة يوم الأربعاء 5 أبريل، تزامنًا مع تواجد رئيسة تايوان في كاليفورنيا.
وثاني تلك الخطوات، وكنتيجة للخطوة الأولى، تتمثل في فرض حد أدنى للتفاهم بين بكين وتايبيه بمرجعية إجماع 1992، حول "الصين الواحدة"، على الرغم من اختلاف رؤية كلا الجانبين، لما يعنيه ذلك المبدأ في رؤية الصين من انضواء للجزيرة تحت سُلطة بكين على غرار هونج كونج وماكاو اللتين عادتا للسيادة الصينية بعد الاستعمار، مع الاحتفاظ بقدر من صلاحيات الحكم الذاتي، في إطار مبدأ "دولة واحدة ونظامين". ولكنها ستفضي في رؤية الكومنتانج لتطبيع العلاقات على جانبي المضيق دون التخلي عن هامش المناورة بين واشنطن وبكين؛ للحفاظ على استقلال قرار الجزيرة فعليًا كجزء من الصراع على السُلطة.
وإجمالًا؛ تأتي زيارة رئيسة تايوان إلى أمريكا الوسطى ولقاؤها مع رئيس مجلس النواب الأمريكي، في خضم صراع مُبكر بين جناحي المعادلة السياسية في الجزيرة، محورها العلاقات مع كل من الصين والولايات المتحدة والأسلوب الأمثل للتعامل مع ضغوط بكين، في ظل خسائر دبلوماسية تواجهها تايبيه مع تقلص عدد الدول التي تُقيم معها علاقات دبلوماسية.