أجرى وزير الخارجية التركي "مولود تشاووش أوغلو" زيارة إلى مصر، في 18 مارس 2023، تلبية لدعوة نظيره المصري "سامح شكري"؛ لإجراء مباحثات مشتركة بين البلدين على نطاق أوسع، وتحمل هذه الزيارة أهمية خاصة كونها تأتي بعد عقد من توتر وتأزم العلاقات بين البلدين، بجانب مساعي الدولة التركية برئاسة "رجب طيب أردوغان"، خلال السنتين الأخيرتين لاستعادة العلاقات مع مصر، وإنهاء الخلافات السياسية العالقة بينهما منذ عام 2013، بما يضمن تحقيق مصالح شعبي البلدين، وإنهاء العزلة التركية مع دول منطقة الشرق الأوسط، في إطار سياسة "صفر مشاكل".
حراك مكثف:
تأتي هذه الزيارة في إطار جملة من التطورات شهدتها العلاقات المصرية التركية، منذ منتصف العام 2021 وحتى الوقت الراهن، عكست رغبة البلدين في إعادة تطبيع العلاقات بينهما، والتي يُمكن عرضها على النحو التالي:
(*) محادثات استكشافية دبلوماسية في القاهرة: خلال العام 2021، ظهرت ملامح تكشف عن رغبة تركيا في استعادة العلاقات مع مصر، وهو ما رحبت به الأخيرة، شريطة أن تتخلى أنقرة عن دعمها لجماعة الإخوان (المصنفة في مصر كجماعة إرهابية)، وبالفعل لبت تركيا المطالب المصرية وتراجعت عن دعمها للإخوان، وفي مايو 2021، انطلقت الجولة الأولى من "المحادثات الاستكشافية" من القاهرة للتمهيد لاستعادة العلاقات بين البلدين، ترأسها من الجانب المصري "حمدي لوزا"، نائب وزير الخارجية المصري، ونظيره التركي "سادات أونال"، إلا أن هذه المحادثات توقفت في يونيو من العام نفسه، وأعلن الوزير "شكري" وقتها أن السبب هو "أن خطوات أنقرة ضد تنظيم الإخوان غير كافية"، ولكن في يوليو 2021، أعلن "أردوغان" عن عدم وجود عائق لرفع مستوى العلاقات مع مصر، مُؤكدًا مساعي بلاده لتطبيع العلاقات مع القاهرة، وبالفعل تم الإعلان عن استأنف المحادثات الاستكشافية في أغسطس 2021، وبموجبها أجرى "حمدي لواز" مطلع سبتمبر 2021، زيارة إلى أنقرة لإجراء الجولة الثانية من هذه المحادثات؛ للحديث عن رفع مستوى تطوير العلاقات الثنائية بين البلدين ومناقشة أبرز الملفات الإقليمية.
(*) مصافحة الرئيسين المصري والتركي في قطر: في 20 نوفمبر الماضي، التقى الرئيس المصري "عبدالفتاح السيسي" نظيره التركي "رجب طيب أردوغان"، في العاصمة القطرية الدوحة، على هامش افتتاح كأس العالم 2022، ووقتها تصافح الرئيسان وأجريا لفترة وجيزة مباحثات مُشتركة، ووقتها كشف عدد من المراقبين عن أن هذه الخطوة تنم عن "نية صادقة" لدى البلدين لتجاوز جميع الخلافات العالقة بينهما، إذ كانت هذه المرة الأولى التي يلتقي فيه "السيسي" و"أردوغان" في حدث دولي ويبرمان لقاء، حتى وإن كان لفترة قصيرة، ولكن الأهم أنه فتح المجال لمزيد من توسع العلاقات بين البلدين، وهو ما أكده الرئيس التركي الذي علق على مصافحة نظيره المصري، قائلًا، "خطوة أولى نحو مزيد من تطبيع العلاقات بين القاهرة وأنقرة ستعقبها تحركات أخرى بين البلدين على مستوى أعلى".
اجتماع ممثلي شركات تجارية تركية في القاهرة: ومن التحركات الدبلوماسية إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية، عقد رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، في 16 فبراير الماضي، اجتماعًا مع وفد تركي يضم ممثلي شركات تركية تعمل في مصر، لأول مرة منذ 10 سنوات، وكشف الاجتماع عن رغبة رجال الأعمال الأتراك في توسيع استثماراتهم في السوق المصرية، خلال الفترة المقبلة، وكشف بيان لرئاسة مجلس الوزراء المصري، عن "تخطيط الشركات التركية لاستثمارات جديدة في مصر تصل قيمتها إلى 500 مليون دولار"، وهو ما رحب به "مدبولي" الذي أكد أن الدولة المصرية ستقدم جميع وسائل الدعم اللازمة لهذه الشركات، وأضاف "على الرغم من اختلافات سياسية قد حدثت خلال فترات سابقة، فقد حرصنا في مصر على أن تظل العلاقة بين شعبينا، وأن يظل تعاوننا في المجالات الاقتصادية والتجارية وثيقًا".
(*) زيارة وزير الخارجية المصري إلى تركيا: أجرى وزير الخارجية المصري "سامح شكري" في 27 فبراير الماضي، زيارة إلى الأراضي التركية، كانت الأولى له منذ 10 سنوات من تأزم العلاقات بين البلدين، وصفت بكونها زيارة في "غاية الأهمية"، إذ عقد "شكري" مباحثات مع نظيره التركي "تشاووش أوغلو"، أكد خلالها دعم ومساندة مصر الدائم للدول في الأزمات التي تمر لها؛ لأن هذه الزيارة صاحبها تسليم القاهرة شحنة المساعدات الإنسانية السادسة إلى أنقرة؛ لمساندة الأخيرة في أزمة الزلزال المُدمر الذي ضربها في 6 فبراير الماضي، ونجم عنه وقوع الآلاف من القتلى والجرحى، وهو ما أكده "شكري" قائلًا "مصر ستبقى إلى جانب شقيقتها تركيا، وإن العلاقات بين البلدين سترتقي لأفضل مستوى"، وقد جاءت هذه الزيارة لتكشف عن ارتفاع مستوى تطور العلاقات لدرجة قد تفضي إلى عقد لقاءات على المستوى الرئاسي بين "السيسي" و"أردوغان"، وفقًا لما أكده وزير الخارجية التركي خلال المؤتمر الصحفي المُشترك مع نظيره المصري، وقال وقتها: "من المحتمل عقد اجتماع بين الرئيسين المصري عبد الفتاح السيسي، والتركي رجب طيب أردوغان، خلال الفترة المقبلة."
دوافع الزيارة:
في ضوء ما تقدم، يُمكن القول أن التطورات السالف ذكرها مجتمعة والتي كان آخرها زيارة الوزير التركي إلى القاهرة؛ أكدت رغبة البلدين الجادة في إعادة العلاقات بينهما، بما يضمن تحقيق أهداف مُشتركة ستنعكس ليس فقط على تحسين علاقاتهما الثنائية في مختلف المجالات، ولكن على دول الإقليم، وقد تمتد أيضًا لتطال أزمات دولية. وعليه يُمكن توضيح دوافع زيارة "تشاووش أوغلو" إلى مصر في هذا التوقيت، كما يلي:
(&) رفع مستوى تطوير العلاقات المصرية التركية: في المؤتمر الصحفي الذي عقده وزيرا الخارجية المصري والتركي في القاهرة، تم تأكيد عزم بلديهما لاستعادة زخم العلاقات الثنائية، وهو ما سيُسهم خلال الفترة المقبلة في رفع مستوى تطوير العلاقات السياسية بين أنقرة والقاهرة، وإنهاء أو تجميد أية خلافات عالقة، بما سيفضي إلى إمكانية عقد قمة على مستوى أعلى بين الرئيسين المصري والتركي، خاصة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية التركية المُقرر انعقادها في 14 مايو المقبل، ورغبة "أردوغان" في إصلاح علاقات بلاده مع دول المنطقة، وتأتي مصر على رأس هذه الدول؛ لأن كلا البلدين يُمثلان "قوة رئيسية" داخل المحيطين العربي والإسلامي، وعودة العلاقات الاستراتيجية بينهما ورفع مستوى التمثيل الدبلوماسي، سينعكس بشكل إيجابي على المنطقة.
(&) تعزيز العلاقات التجارية والاقتصادية بين البلدين: إن من أبرز الدوافع الرئيسية التي تحملها زيارة "تشاووش أوغلو" إلى القاهرة، زيادة المصالح الاقتصادية والتجارية المشتركة، خاصة أن حجم التبادل التجاري بينهما بلغ حوالي 9 مليارات دولار، ويقدر حجم الاستثمارات التركية في مصر بـ 2.5 مليار دولار،(وفقًا لما أعلنه وزير الخارجية المصري خلال مؤتمر صحفي مع نظيره التركي 18 مارس 2023)، وهو ما تم التأكيد عليه أيضًا، خلال اجتماع الوفد التجاري التركي مع رئيس الوزراء المصري، وخلال المباحثات الهاتفية التي أجراها الرئيس المصري مع نظيره التركي عقب وقوع زلزال "كهرمان مرعش" المدمر؛ وعليه قد تشهد الفترة المقبلة إبرام اتفاقيات استثمارية متنوعة بين البلدين لمواجهة أزماتهما الاقتصادية، والتي تفاقمت عقب اندلاع بعض الأزمات الدولية، كجائحة كورونا في 2020، ثم الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير العام الماضي، مما أثر بشكل جلي، ليس فقط على اقتصاد تركيا ومصر بل الاقتصاد العالمي بأكمله.
(&) حلحلة الأزمات الإقليمية ذات الاهتمام المُشترك: ألمح "شكري" أن المباحثات مع نظيره التركي شملت عددًا من القضايا الإقليمية، خاصة المتعلقة بالوضع في ليبيا وسوريا والعراق، وهو ما يكشف أن زيارة "تشاووش أوغلو" إلى القاهرة في هذا التوقيت، تنم عن رغبة الجانب التركي في وضع حد لهذه الأزمات والاستجابة للرؤية المصرية القائمة على احترام أمن وسيادة الدول الأخرى، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية وفرض ممارسات قائمة على الهيمنة وتعزيز النفوذ بهذه البلدان، وعليه، فإن القاهرة لطالما أعلنت عن رفضها لوجود قوات تركية أو أجنبية أو "عناصر مرتزقة" تدعمها أنقرة بالأراضي الليبية، وطالبت مرارًا بانسحابها حتى يسهل حلحلة الأزمة الليبية التي دخلت عامها الحادي عشر، بما يفضي إلى استعادة الدولة الليبية وتوحيد الحكومات المنقسمة بها، وهو الأمر ذاته الذي ينطبق على سوريا، فمن المعروف أن لتركيا وجودًا بالأراضي السورية، وتدعم المعارضة تحت مزاعم محاربة الأكراد الإرهابيين الذين يهددون الحدود التركية، وأخيرًا ظهرت بوادر لإصلاح العلاقات التركية مع النظام السوري برئاسة "بشار الأسد"، ولذلك قد تكون القاهرة "راعية" لتحسين العلاقات بين "أردوغان" و"الأسد" بما يفضي إلى وجود حل للأزمة السورية ينعكس بشكل إيجابي على شعبها.
(&) تعاون مشترك لإيجاد حل للأزمة الأوكرانية: إن مناقشة الوزيرين المصري والتركي في القاهرة للأزمة الأوكرانية، قد تكون دافعًا لتعاون أكثر يفضي إلى إقناع طرفي الأزمة بالتوصل إلى اتفاق لإنهائها في أقرب فرصة ممكنة، خاصة أن تركيا منذ بدء العملية الروسية على أوكرانيا، كانت في طليعة الدول المعلنة عن مساعيها للتوسط بين البلدين اللذين تجمعها بهما علاقات مشتركة في المجالات كافة، السياسية والاقتصادية وغيرهما، وعلى الناحية الأخرى، فإن مصر أعلنت في أبريل الماضي على لسان وزير خارجيتها رغبتها في القيام بجهود وساطة تسهل إبرام مفاوضات مباشرة بين الجانبين الروسي والأوكراني، وإنهاء العمليات العسكرية والتوصل لحل سلمي ومقبول لكليهما، وعليه فإن عودة العلاقات المصرية التركية وتطويرها قد ينعكس بشكل إيجابي على هذا النزاع الدولي، خاصة أن من مصلحة القاهرة وأنقرة إيجاد حل لهذا النزاع؛ لإخماد مخاوف البلدين من تحول الأزمة الأوكرانية الروسية لـ"أزمة نووية".
تأسيسًا على ما سبق، يمكن القول أن المسار الإيجابي الذي تشهده العلاقات المصرية التركية؛ سيلقي بظلاله على دول المنطقة العربية خلال الفترة المقبلة، خاصة التي تعاني من أوضاع مأزومة منذ سنوات، بما يضمن إحلال الأمن والاستقرار ليس بهذه الدول فحسب، بل في المنطقة بأكملها، كما كشف الحراك التركي المتصاعد عن رغبة "أردوغان" في إصلاح علاقاته مع دول الإقليم، وخاصة مصر الدولة المهمة لدول منطقة الشرق الأوسط، بل والعالم العربي والغربي، ومن المتوقع أن تتزايد التحركات الخارجية التركية الأشهر المقبلة، لإعادة العلاقات المصرية التركية إلى مكانها الصحيح.