مع انطلاق العام 2023، عاد تنظيم "داعش" الإرهابي لشن هجمات مكثفة في عدد من المناطق التي تمكنت القوات العراقية منذ أكثر من 5 سنوات من تحريرها من قبضة التنظيم، وخاصةً "المناطق الجبلية الريفية"، الذي لم يلفظ بعد أنفاسه في بلاد الرافدين؛ حلمه القديم لإقامة دولته المزعومة، الأمر الذي دفع بـ"محمد شياع السوادني" رئيس الوزراء العراقي، إلى استقبال العام الجاري بالإعلان في 7 يناير الماضي، عن إجراء مراجعة على جهاز مكافحة الإرهاب وتحديث قدرته التسليحية؛ للتأهب لتعقب فلول التنظيم الإرهابي واستئصال جذوره ودحر أهدافه الخبيثة الهادفة لزعزعة ليس أمن واستقرار العراق وحده بل المنطقة بأكملها.
وفي ظل الجهود المبذولة من الحكومة العراقية في تجديد آليات مكافحة الإرهاب، بالإضافة إلى دورها في تمهيد التقارب السعودي الإيراني، يُحاول هذا التحليل قراءة حدود تأثير الاتفاق السعودي الإيراني على هجمات "داعش" بالعراق مُتطرقًا إلى مستوى هجمات التنظيم في هذا التوقيت وأسبابها.
طبيعة الهجمات:
ثمة دوافع كامنة وراء اندلاع هجمات تنظيم "داعش" في العراق، بعد الإعلان عن الاتفاق السعودي الإيراني، يُمكن التطرق لها على النحو التالي:
(*) التركيز على استهداف المدنيين الشيعة وسط العراق: نفذ تنظيم "داعش" أول عملية إرهابية، خلال هذا العام في 19 يناير الماضي، وذلك بمهاجمة قرية "البوبالي" الواقعة في وسط العراق، والتي ينتمي غالبية سكانها إلى المذهب الشيعي، إذ بها "عشائر الدليم" ويوجد بها بعض قوات الحشد الشعبي العراقية (موالية لإيران) ووفقًا للأرقام الرسمية المُعلنة على وسائل الإعلام العراقية، فقد أسفر الهجوم عن مقتل ثمانية مدنيين، بينهم أطفال وإصابة ثلاثة آخرين من قوات الحشد، ولأن التنظيم الإرهابي يعتبر الشيعة "كفارًا ومرتدين"، ففي البيان الذي أصدره على تطبيق "تيليجرام" لإعلان مسؤوليته عن هذا الهجوم، قال إن عناصره استهدفوا "ميليشيات رافضية مرتدة".
(*) إثارة النزاعات العشائرية بشرق العراق: بعد شهر تقريبًا من الهجوم الإرهابي الداعشي على قرية "البوبالي"، وقعت عملية إرهابية أخرى في 20 فبراير الماضي، بالقرية المجاورة لـ"البوبالي" وهي "قرية الجبايلة" الواقعة شمال شرق بعقوبة مركز محافظة ديالى شرقي العراق، إذ استهدف مسلحون مجهولون بالأسلحة الرشاشة مجموعة من المزارعين بهذه القرية، وهو ما نجم عنه مقتل 9 أشخاص بينهم نساء وأطفال وإصابة ثلاثة آخرين، ورغم أن "داعش" لم يتبن هذه العملية إلا أن عددًا من المراقبين أكدوا أن هذه العملية وراءها التنظيم الإرهابي، خاصة أن بعض مسلحيه ينتمون لعشيرة "العزّة" (من أهل السُنة)، إلا أنهم رفضوا إعلان مسؤوليتهم عن هذه العملية؛ للقول أن "نزاعًا عشائريًا" وراءها، نفذه مواطنون شيعة بقرية "البوبالي" المجاورة، والقول أن هذه العملية الإرهابية ذات "بُعد طائفي"، وهذا ما نفاه مستشار محافظ ديالى "خضير العبيدي"، قائلًا في بيان له، "الحادث ليس له أي بُعد طائفي، ومن يحاول الترويج لهذا الاتجاه، فهي محاولة لخلط الأوراق وخلق فتنة في محافظة عانت من تداعياته لسنوات ودفع الجميع ثمنها".
(*) استهداف المزارات الدينية لشيعة العراق: ومن ناحية أخرى حاول مسلحو "داعش" استهداف الأماكن الدينية الخاصة بالشيعة في بلاد الرافدين، ففي 16 فبراير الماضي، اتجه مجموعة من المسلحين لشن هجوم إرهابي لاستهداف زائري "ضريح الإمام الكاظم" شمالي العاصمة العراقية بغداد، إذ يتوافد الشيعة من كل مكان في الـ 25 من شهر رجب الهجري، والذي وافق منتصف فبراير الماضي، لإحياء ذكرى وفاة "الإمام موسى الكاظم" (سابع أئمة الشيعة الاثنى عشر)، إلا أن القوات العراقية تصدت له، إذ أعلن قائد عمليات بغداد "أحمد سليم"، أن لواء القوات الخاصة لقيادة عمليات بغداد أحبط مخططًا إرهابيًا لاستهداف زائري الإمام الكاظم، وتم قتل مجموعة مكونة من ثلاثة إرهابيين تابعين لتنظيم "داعش"، أحدهم كان يرتدى حزامًا ناسفًا في قضاء "الطارمية" شمال العاصمة بغداد، كانوا ينوون استهداف زائري الضريح، وهو ما نجم عنه أيضًا إصابة جندي عراقي بنيران قناص داعشي في الطارمية.
(*) التصويب نحو القوات الأمنية العراقية: لطالما دأب تنظيم "داعش" على توجيه هجماته نحو الأجهزة الأمنية العراقية، وبالفعل فإن الهجمات التي شنها مطلع العام الجاري، وخاصة خلال فبراير الماضي وتحديدًا في شمال بغداد ومحيط مدينة كركوك وغرب الأنبار، لاستهداف الجنود والضباط العراقيين، وكشفت خلية الإعلام الأمني العراقية في بيان لها منتصف فبراير الماضي، عن شن مسلحي "داعش" هجومًا بعبوة ناسفة في قضاء الطارمية شمال بغداد، وهو ما نجم عنه مقتل ضابط كبير في الجيش العراقي وإصابة ثلاثة آخرين، أما الهجوم الذي وقع في قضاء هيت غرب الأنبار فنجم عنه مقتل أربعة من قوات الحشد الشعبي، والهجوم الثالث وقع بالقرب من مرتفعات حمرين في محيط مدينة كركوك، وأدى إلى إصابة عدد من عناصر الشرطة العراقية.
دوافع التصعيد:
وفي إطار الهجمات السالف ذكرها، يُمكن القول أن التنظيم الإرهابي يسعى من خلالها إلى تحقيق جملة من الدوافع، يأتي من أبرزها ما يلي:
(&) عرقلة استراتيجية الحكومة العراقية لدحر الإرهاب: يريد تنظيم "داعش" من خلال هذه الهجمات المتنوعة التي أطلقها خلال الشهرين الماضيين، عرقلة جهود الحكومة العراقية؛ لإخراجها من البلاد، فمنذ تسلم "محمد شياع السوداني" رئاسة الوزراء في أكتوبر الماضي، وهو يعمل بشكل مستمر على تقوية الأجهزة الأمنية العراقية، بل وحث الأطراف الخارجية على دعم بلاد الرافدين في استراتيجية لمحاربة الإرهاب وطرد جميع العناصر الإرهابية من الأراضي العراقية؛ لإحلال الأمن والاستقرار في دول منطقة الشرق الأوسط، وهو ما أكده مرات عدة، ولذلك حينما أعلن مطلع العام الجاري عن إعادة هيكلة جهاز مكافحة الإرهاب، بجانب إطلاق القوات الأمنية العراقية في 26 فبراير الماضي "عملية فرسان الحق"؛ لتعقب فلول التنظيم الإرهابي وخاصة بمدينة الموصل شمال البلاد، ونصب كمائن أخرى في مناطق تمركز التنظيم بمحافظات بغداد، الأنبار، كركوك، صلاح الدين؛ أطل مسلحو "داعش" برؤوسهم وأطلقوا حزمة من الهجمات، لإيصال رسالة للحكومة مفادها أن التنظيم لا يزال موجودًا بالبلاد وقادر على تهديد المدنيين والعسكريين، على حدا سواء.
(&) محاولة حشد عناصر إرهابية جديدة: نجحت القوات العراقية أخيرًا في استعادة نفوذها وهيكلة أجهزتها، وتمكنت من قتل واعتقال عدد كبير من أبرز قيادات ومسلحي التنظيم، كـ"أبو قيس الفراجي" المكني بـ(أبو سامر) المسؤول الشرعي العام لما يسمى ولاية شمال بغداد، والمسؤول السابق عن ملف الأسرى والقتلى، و"عبد الوهاب محمد الفراجي"، المكني بـ(أبو منصور)، الاقتصادي العام بالتنظيم، اللذين قتلا في عملية لجهاز الأمن العراقي 13 مارس الجاري، وعليه، فإن نجاح هذه القوات في تكبيد "داعش" خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، هو ما دفع بالأخير إلى شن هجمات لكسب وحشد عناصر جديدة إلى صفوفه، لاستعادة قوته البشرية، خاصة بعد أن بات إجمالي عناصره لا يتجاوز الـ400 إلى 5000 مقاتل في أربع محافظات عراقية، وفقًا لما أعلنه "قيس المحمداوي"، نائب رئيس قيادة العمليات المشتركة العراقية، خلال مؤتمر صحفي في 12 مارس الجاري، كما أعلن تقرير لمجلس الأمن الدولي أن القوات العراقية نجحت خلال عام 2022 في قتل نحو 150 عنصرًا داعشيًا.
(&) تهديد بقاء القوات الأمريكية في بلاد الرافدين: ما زالت واشنطن تحتفظ بقوات لها داخل الأراضي العراقية، وهو ما يهدد بالتأكيد استمرار بقاء داعش داخل البلاد، ولذلك لم يجد الأخير سوى العمل على شن هجمات متعددة، يحاول من خلالها تهديد مصالح واشنطن، ودفعها لإخراج قواتها من العراق، وهو يعلم أن الأخيرة تدرك ذلك جيدًا، إذ كان هذا من ضمن الأسباب التي دفعت بوزير الدفاع الأمريكي "لويد أوستن" لزيارة العاصمة بغداد في 7 مارس الجاري، وخلال هذه الزيارة أكد المسؤول الأمريكي على استمرار بقاء قوات بلاده داخل العراق، وتكثيف التعاون الأمني والعسكري مع الجهات العراقية المعنية لمواجهة الإرهاب، ووجه رسالة خاصة خلال مؤتمر في بغداد إلى التنظيم الإرهابي، قائلًا، "نركز على المهمة الموكلة لنا لهزيمة تنظيم داعش، ولكن أي هجمات تستهدف قواتنا يمكن أن تقوض هذه المهمة"، مُضيفًا، "هذه المهمة حساسة، ويسرنا أن ندعم شركاءنا العراقيين، ولكن يجب أن نعمل بشكل آمن لاستمرار هذه الحرب ضد التنظيم المتشدد".
(&) إثارة "فتنة طائفية" بالمحافظات ذات الأغلبية الشيعية: يتجه "داعش" إلى السير على نهج استراتيجيته التي كان يتبعها في الماضي قبل القضاء عليه بالعراق في 2019؛ المتمثلة في "استهداف الغالبية الشيعة" وتنفذ هجمات ذات "بعد طائفي" في بلاد الرافدين، وإطلاق مزاعم بأن الهجمات التي تحدث المحافظات التي يقطنها شيعة ناجمة عن نزاعات بين العشائر الموجودة، تستوجب تدخل الحكومة العراقية لوضع حد لها من جهة، ودفع القوات العراقية لاحتوائها والتركيز عليها ومن ثم غض الطرف عن أعمال التنظيم ومساعيه للتغلغل داخل البلاد من جهة أخرى، إلا أن هذه الاستراتيجية باتت معلومة لدى القوات العراقية، ونجحت مؤخرًا في إفشالها باحتواء النزاع الذي كان يسعى "داعش "لتأججيه مؤخرا في قريتي "الجبايلة" و"البوبالي" بوسط وشمالي العراق.
تأثير محتمل:
في ضوء ما تقدم، تجدر الإشارة أن الاتفاق السعودي الإيراني الذي تم توقيعه بين البلدين في 10 مارس الجاري برعاية صينية وقضي بإعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بعد انقطاعها لمدة 7 سنوات؛ لاقي ترحيبًا كبيرًا من مختلف الدول العربية والغربية، وكانت العراق في طليعة البلدان المرحبة بهذا الاتفاق، خاصة لأنها اعتبرته نجاحًا لجهود الوساطة التي قادتها خلال العامين الماضيين بين البلدين اللذان تجمعهم علاقات جيدة مع بلاد الرافدين، ومن جهة أخرى، لرؤيتها أن اتفاق كهذا سيسهم في تعزيز الأمن والاستقرار بدول منطقة الشرق الأوسط عامة، والعراق بشكل خاص.
وعن بعض ردود الأفعال العراقية المرحبة بالاتفاق السعودي الإيراني، قول رئيس الوزراء "السوداني"، "نريد منطقة آمنة وبيئة تعزز فرص التنمية، ولا يكون ذلك إلا بإرادة جماعية تتجاوز الخلافات"، في حين علق زعيم "تيار الحكمة" العراقي "عمار الحكيم"، قائلًا، "اتفاقاً مثل هذا، سيسهم بشكل فعّال في استقرار المنطقة، وهو مصداق لتمتع العراق بمقومات عديدة تؤهله ليكون جسراً لربط المصالح، بما ينعكس إيجاباً على مصالحه"، ومن جهته، قال رئيس الوزراء العراقي السابق "إياد علاوي"، "الاتفاق بين السعودية وإيران سينعكس إيجاباً على العراق والمنطقة بأسرها".
وعليه، من المتوقع أن ينعكس هذا الاتفاق الذي سيحتوي الخلافات بين طهران والرياض؛ على بلاد الرافدين، إذ سيمكنها من تجفيف بؤر التوتر والإرهاب بها، ومواجهة ومحاصرة جميع التنظيمات الإرهابية التي تريد النيل من الدولة العراقية وعلى رأسهم تنظيم "داعش"، وذلك لإدراك هذه البلدان أن عودة العراق إلى المحيط العربي وتقديم وسائل الدعم اللازمة له لتمكينه من مواجهة الإرهاب سينعكس بشكل إيجابي على المنطقة وإحلال الأمن والاستقرار بها.
تأسيسًا على ما سبق، يمكن القول أن الفترة المقبلة قد تشهد تصاعد في هجمات "داعش" الإرهاب خاصة مع اقتراب شهر رمضان الكريم والذي يستغله التنظيم الإرهابي لشن "عمليات نوعية" قد ينجم عنها إما اغتيالات لقادة العراق أو شن "عمليات انتحارية"، وهو الأمر الذي يتطلب من الأجهزة العراقية المعنية تكثيف "جهودها الاستخباراتية " لدحر هذه الهجمات، بل والاستفادة من الانعكاسات الإيجابية لعودة العلاقات السعودية الإيرانية على بلاد الرافدين.