بعد تحليل استغرق شهورًا وامتد إلى 72 صفحة، كشف تقرير أممي جديد عن أخطر اتهام موجه لإسرائيل منذ اندلاع حرب غزة، أكتوبر 2023، أصدرته لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة وإسرائيل، إذ أعلنت أن الأدلة المتوافرة تُشكل "دليلًا مباشرًا على نية الإبادة الجماعية"، وهو توصيف يضع إسرائيل أمام محاكمة التاريخ والعدالة الدولية على حد سواء.
تقرير غير مسبوق
ونقلت صحيفة "الجارديان" البريطانية أن لجنة التحقيق، التي أنشأها مجلس حقوق الإنسان قبل أربع سنوات وتضم ثلاثة خبراء مستقلين، خلصت إلى أن العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة استهدفت "تدمير جماعة وطنية أو عرقية أو دينية كليًا أو جزئيًا".
ورغم أن اللجنة لا تتحدث رسميًا باسم الأمم المتحدة، إلا أن ضغوطًا متزايدة تُمارس على المنظمة الدولية لاعتماد مصطلح "الإبادة الجماعية".
وتشير تقارير حقوقية إلى أن "أكثر من 64 ألف فلسطيني، معظمهم مدنيون، قُتلوا وأُصيب أكثر من 160 ألفًا منذ بدء الهجوم".
الرد الإسرائيلي
وجاءت ردود الفعل الإسرائيلية حادة، إذ وصف سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة في جنيف، دانييل ميرون، التقرير بأنه "مُشين" و"مُزيّف"، معتبرًا إياه من إعداد "وكلاء حماس"، وقال للصحفيين: "ترفض إسرائيل رفضًا قاطعًا هذا التشهير الذي نشرته لجنة التحقيق اليوم".
واستندت اللجنة الأممية إلى اتفاقية 1948 لمنع الإبادة الجماعية، التي وُضعت بعد المحرقة النازية، وحددت أن إسرائيل ارتكبت أربعة من أصل خمسة أفعال تُصنّف كإبادة جماعية، استنادًا إلى مقابلات مع ضحايا وشهود وأطباء، وتحليل صور أقمار صناعية، وتقارير إعلامية ووثائق من منظمات غير حكومية.
أولًا: القتل الجماعي
بحسب التقرير، حتى منتصف يوليو 2025، شكّلت النساء والأطفال 46% من إجمالي الضحايا بغزة، كما استشهد التقرير بمعلومة نشرتها الجارديان بالاستناد إلى استخبارات إسرائيلية تفيد بأن 83% من القتلى مدنيون.
وأشارت اللجنة إلى استخدام إسرائيل ذخائر ثقيلة غير موجهة في مناطق مكتظة، معتبرة أن "عدد القنابل غير مسبوق حتى بالمقارنة مع صراعات عالمية أخرى".
ثانيًا: أضرار جسدية وعقلية
سلط التقرير الضوء على سوء معاملة المعتقلين الفلسطينيين، والنزوح الجماعي الذي أجبر مئات الآلاف على العيش في ظروف غير إنسانية، وأشار إلى شهادات أطباء حول وفاة نساء حوامل، بسبب نقص الأدوية والمعدات الطبية.
ثالثًا: تدمير الحياة
وصف التقرير غزة بأنها أصبحت "شبه غير صالحة للسكن"، مع تدمير المخابز والمدارس والمستشفيات والمواقع الدينية والثقافية، كما أشار إلى إعلان أممي حديث حول المجاعة في بعض مناطق القطاع.
رابعًا: استهداف قدرة الإنجاب
في ديسمبر 2023، استُهدفت عيادة البسمة لأطفال الأنابيب -الأكبر في غزة- ودمّر الهجوم نحو 4000 جنين و1000 عينة من الحيوانات المنوية والبويضات، ما اعتبرته اللجنة دليلًا على محاولة "تدمير الاستمرارية البيولوجية للمجموعة الفلسطينية".
حوادث موثقة
قدّم التقرير تفاصيل عن هجمات بعينها، بينها استهداف سيارة عائلية قرب محطة وقود في تل الهوى بمدينة غزة، يناير 2024، ما أدى إلى مقتل خمسة أطفال، كما أشار إلى منع وصول سيارات الإسعاف إلى الضحايا بعد تعرض إحداها لإطلاق نار مباشر.
ووثقت اللجنة أيضًا مقتل 15 مسعفًا في جنوب غزة، خلال مارس، واعتبرت ذلك "نمطًا ثابتًا من إنكار المسؤولية والتملص منها".
وأبرز التقرير صورًا للنزوح الجماعي، إذ أقام الفلسطينيون خيامًا مؤقتة فوق أنقاض المباني، فيما تحولت شوارع غزة إلى ملاجئ عشوائية، فيما أظهرت صور رويترز ووكالة أسوشيتد برس عائلات تحمل ممتلكاتها على عربات وشاحنات، في مشاهد تعكس حجم الكارثة الإنسانية.
كلمة السر في الجريمة
أحد أصعب جوانب إثبات جريمة الإبادة الجماعية هو إثبات "القصد"، غير أن اللجنة أشارت إلى تصريحات مباشرة صدرت عن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ومسؤولين آخرين، واعتبرتها "دليلًا مباشرًا" على النية.
وفي نوفمبر 2023، قارن نتنياهو عمليات غزة بـ"حرب مقدسة للإبادة الكاملة" في النصوص الدينية، وأشار التقرير أيضًا إلى تصريحات الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، ووزير الدفاع السابق يوآف جالانت، واعتبرها ضمن خطاب التحريض.
خبرة قضائية سابقة
ترأست القاضية الجنوب إفريقية نافي بيلاي، وهي من بين مؤلفي التقرير الثلاثة، محكمة الأمم المتحدة الخاصة برواندا، التي نظرت في إبادة جماعية راح ضحيتها أكثر من مليون شخص عام 1994. وقالت بيلاي للصحفيين: "خلصت اللجنة إلى أن نية الإبادة الجماعية هي الاستنتاج المعقول الوحيد الذي يمكن استخلاصه من مجمل الأدلة".
وأكدت "الجارديان" أن التقرير لا يعني بالضرورة أن الأمم المتحدة ستتبنى فورًا توصيف "الإبادة الجماعية"، لكنه يفتح الباب أمام ضغوط قانونية وسياسية على إسرائيل، ويضع المجتمع الدولي أمام اختبار صعب بين حماية المدنيين في غزة وبين حسابات التحالفات الإقليمية.