تدخل الهند العام الجديد، وهي تترأس مجموعة العشرين، حيث تسلمت نيودلهي في الأول من ديسمبر 2022 رئاسة المجموعة وتستمر حتى 30 نوفمبر 2023، وتعد المجموعة منتدى دوليًا يضم 19 دولة إلى جانب الاتحاد الأوروبي، وتستحوذ على 85% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، و75% من التجارة الدولية، ويقطنها ثلثا سكان العالم. وتتزايد التساؤلات حول ملامح السياسة الخارجية الهندية خلال عام 2023، في ظل التحولات الكبرى التي يشهدها النظام الدولي، وتزايد التوقعات بالتحول نحو نظام متعدد الأقطاب من الناحية الاقتصادية، وترشيح الهند لتكون ضمن تلك الأقطاب الصاعدة على أساس أن القرن الحادي والعشرين سيكون قرنًا آسيويًا بامتياز، لكنه أيضًا ربما يكون هنديًا بالتحديد وليس صينيًا كما تعتقد الكثير من التحليلات.
مقومات داعمة:
تمتلك الهند العديد من المقومات التي ترشحها لتكون أحد الفاعلين المؤثرين في حركة التفاعلات الدولية، خلال المرحلة المقبلة؛ للعديد من الاعتبارات أهمها:
(*) كفاءة النظام السياسي: تمتلك الهند نظامًا سياسيًا ديمقراطيًا نجح في صهر كل العرقيات والقوميات والأديان، من خلال وضع الدستور لركائز الفيدرالية الهندية، القائمة على إعطاء صلاحيات للولايات التي تتشكل منها الدولة الفيدرالية، مع ميل واضح نحو المركزية من خلال الصلاحيات التي منحها الدستور للسلطة المركزية لحل المشكلات السياسية والاقتصادية التي تواجه البلاد، وقد كان لتكوين المؤسسة التشريعية من خلال الصيغ التمثيلية التي تكفل تمثيل الجميع في البرلمان الفيدرالي أو في مجالس الولايات بالأقاليم، جعل الديمقراطية الأساس لإدارة أنواع من الاختلاف، وهو ما انعكس على الاستقرار السياسي، الذى بدوره انعكس على الدور الاقتصادي الصاعد للهند والمنافس للاقتصادات الآسيوية البازغة مثل الصين واليابان.
(*) تنوع القدرات الاقتصادية: تعد الهند سابع أكبر دولة من حيث المساحة (3,287,263 كم مربع)، وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن عدد سكان العالم في نوفمبر 2022 بلغ 8 مليارات نسمة، أكثر من ثلثهم في الصين والهند. ويتجاوز عدد سكان الهند نحو 1,38 مليار نسمة، أي أقل بقليل من 1,4 مليار نسمة وفقًا لتقديرات البنك الدولي. وتتوقع تلك التقديرات أن الهند ستصبح أكبر دولة من حيث عدد السكان في عام 2023. وقد نجحت الهند في توظيف قدراتها البشرية كداعم للتنمية الاقتصادية منذ انطلاق الإصلاح الاقتصادي الشامل في عام 1991 الذي يقوم على الالتحاق بالاقتصاد الرأسمالي المُعولم، حيث حققت نجاحات اقتصادية، جعلت الاقتصاد الهندي من أسرع اقتصادات العالم نموًا منذ 2018 بنحو 7.3%. بما جعل تنبؤات الهيئات الاقتصادية تتوقع بأن الصين التي تمثل الآن ثاني أكبر اقتصاد في العالم مرشحة لأن تكون أكبر اقتصاد في العالم بحلول عام 2035، أما الهند ثالث اقتصاد في آسيا، فيتوقع أن تتجاوز اليابان عام 2033، لتصبح ثاني أكبر اقتصاد آسيوي، والثالثة عالميًا بعد الولايات المتحدة والصين.
(*) الشراكات الاقتصادية العالمية: تتمتع الهند بعضوية العديد من التحالفات الاقتصادية الدولية، وفي مقدمتها مجموعتي العشرين والبريكس، وهو تحالف اقتصادي تأسس عام 2006 يضم الصين والهند والبرازيل وروسيا وانضمت جنوب إفريقيا إلى التحالف عام 2010. وقد اقترحت الصين مؤخرًا بدء عملية توسيع التكتل ضمن "بريكس+" ليشمل مصر والسعودية والإمارات وتايلاند والأرجنتين وإندونيسيا وكازاخستان ونيجيريا والسنغال. كما تعد الهند إحدى الدول المؤسسة لمنظمة جنوبي آسيا للتعاون الإقليمي "شارك" عام 1985، والتي كان الهدف من تأسيسها تعزيز سبل التعاون الاقتصادي وتوطيد السلم، في منطقة تعانى من معدلات فقر مرتفعة. كما انضمت الهند إلى منظمة شنغهاي عام 2002 بصفة مراقب ثم تمتعت بالعضوية الكاملة، لزيادة انخراطها خارج منطقة جنوبي آسيا والتحول نحو دول آسيا الوسطى، حيث تمثل دول المنظمة أكثر من نصف سكان العالم، و25% من الناتج المحلي الإجمالي، وذلك لمواجهة تنامي الدور الصيني الذي يعد المنافس الأكبر للهند في القارة الآسيوية.
(*) فاعلية القوة الناعمة الهندية: تمثل ريادية التعليم الهندي أحد مصادر القوة الناعمة والداعمة لدورها على المستويين الإقليمي والدولي. وقد أسهم التعليم في تعزيز مكانة الهند الدولية لاسيما في المجالات المبتكرة والحيوية، مثل الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات المنتشرة بأودية السيلكون في البلاد، وهو ما ينعكس على تخريج ما يقرب من 1.5 مليون مهندس كل عام، 43% منهم نساء، كما ارتفع معدل الشباب الهندي القادر على القراءة والكتابة من 62% عام 1991 إلى 92% عام 2021. كما تعد الهند من أوائل الدول التي أنشأت مراكز ثقافية في دول العالم المختلفة لنشر ثقافتها، بدءًا من رياضة اليوجا التي تعود أصولها للهند، بما جعل الأمم المتحدة تحتفل في 21 يونيو من كل عام بيوم اليوجا العالمي، مرورًا بالمطبخ الهندي، وصولًا إلى سينما بوليوود التي نجحت في تعزيز القوة الناعمة للهند برغم ما أصابها من تراجع في الآونة الأخيرة.
توجهات متعددة:
في ظل امتلاك الهند للعديد من المقومات التي تؤهلها لدور محوري في تفاعلات السياسة الدولية، فإن التوجهات الخارجية للهند تقوم على العديد من المنطلقات والتصورات لدورها الخارجي، لعل أبرزها يتمثل في التالي:
(*) تعزيز المكانة الدولية: سعت الهند إلى توظيف مكانتها الدولية من خلال إدراكها لمقومات دورها على المستوى العالمي وارتكازه على مصادر قوة فاعلة ومؤثرة من الناحية الاقتصادية والبشرية والتكنولوجية والعسكرية يمكن توظيفها، لخدمة هذا الدور المتنامي والصاعد على مسرح السياسة الدولية، لذلك ارتكزت في علاقاتها مع القوى الكبرى على نسج توازنات دولية مع قوى متناقضة في أهدافها العالمية، وذلك من خلال تعزيز شراكتها مع الولايات المتحدة الأمريكية وانضمامها لتحالف "كواد" أو الحوار الأمني الرباعي، الذى أُعيد تفعيله من قبل الرئيس الأمريكي جو بايدن في سبتمبر 2021، ويضم إلى جانب الهند كل من الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وأستراليا، لمواجهة التمدد الصيني في منطقة المحيطين الهندي والهادئ من جانب، ومن جانب آخر حافظت الهند على علاقات استراتيجية مع روسيا، باعتبارها المورد الرئيسي للسلاح والنفط لها.
(*) الانفتاح على دول الجوار: تقوم السياسة الخارجية الهندية على مبدأ الانفتاح على دول الجوار، وذلك من خلال الاعتماد على استراتيجية تعاونية وتجنب الصراعات، لاسيما وأن دول الجوار تنظر بنوع من الريبة إلى التمدد الهندي إقليميًا، في ظل ميل التوازن الإقليمي لصالح الهند الأكثر قوة، لذلك تبنت إعلان مبدأ جوجرال عام 1996 الذي يقوم على أن الهند لن تكون قادرة على شغل مكانتها في العالم دون السلام والاستقرار في جنوبي آسيا مما يتوجب عليها الانفتاح على جيرانها. وترجمةً لهذا المبدأ وافقت على اتفاقية تقاسم مياه نهر الجانج مع بنجلاديش، كما تبنت سياسة العمل تجاه الشرق لتعزيز التعاون الاقتصادي، استنادًا إلى الروابط الثقافية والدينية المشتركة، وتقديم المساعدات الإنسانية؛ تجنبًا للنزاعات الإقليمية.
(*) تعزيز الدبلوماسية التنموية: استندت الهند في توجهاتها الخارجية إلى تعزيز الدبلوماسية التنموية من خلال ارتباطها بالعديد من الأقاليم الصاعدة اقتصاديًا، فدول مجلس التعاون الخليجي تعد أكبر شريك تجاري للهند لاسيما في ظل وجود عمالة هندية يبلغ عددها أكثر من 7.5 مليون، يسهمون في إنعاش الاقتصاد الهندي من خلال تحويلات مالية سنوية تبلغ ما يقرب من 55 مليار دولار. ووفقًا لتقرير البنك الدولي عن الهجرة والتنمية خلال عام 2022، فإن الهند نجحت في تحقيق رقم قياسي من تحويلات العاملين بالخارج بلغ 100 مليار دولار جعل ترتيبها الأول على دول العالم، حيث زادت تحويلات عامليها في الخارج لتقترب من 12% مقارنة بنمو 7.5% في عام 2021 عندما بلغت تحويلات المهاجرين الهنود إلى وطنهم 89,4 مليار دولار.
مجمل القول؛ إن الهند، وهي تدخل العام الجديد، تعد أحد الأقطاب الاقتصادية الرئيسية الساعية إلى تعزيز مكانتها الدولية من خلال توظيف قدراتها الشاملة لتحقيق أهداف سياستها الخارجية، غير أن تلك المكانة سترتبط بالأساس بمدى قدرتها على صياغة توازنات دولية قادرة على تجاوز حالة الاستقطاب الدولي في منطقة جنوب شرق آسيا، وهي المنطقة التي ستشهد ميلاد نظام دولي جديد، في ظل حالة الصعود الصيني نحو قمة النظام العالمي، ومحاولات الولايات المتحدة الأمريكية وقف هذا التمدد، من خلال تحالفاتها مع شركائها الاستراتيجيين وفي مقدمتهم الهند.