في تطور مفاجئ وُصِف بأنه "صدمة لأوروبا"، هزَّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الساحة الدولية، بإعلانه الاتجاه إلى إجراء مفاوضات مباشرة مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين لإنهاء الحرب في أوكرانيا، متجاوزًا بذلك كل الخطوط الحمراء التي رسمها حلفاؤه الأوروبيون، بحسب صحيفة بوليتيكو الأمريكية.
وتزامن القرار المفاجئ في وقت كانت فيه درجات الحرارة في كييف عند التجمد، ليضع العاصمة الأوكرانية أمام سخونة سياسية، معلنًا عن تحول جذري في السياسة الأمريكية قد يغير مصير الصراع برمته.
تحول تاريخي
وبحسب "بوليتيكو"، كشف وزير الدفاع الأمريكي بيت هيجسيث، عن تغير جذري في الاستراتيجية الأمريكية خلال اجتماع حاسم في مقر حلف شمال الأطلسي "ناتو" ببروكسل، إذ قال بوضوح إن طموحات الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في استعادة شبه جزيرة القرم والمناطق الشرقية لم تعد واقعية، محذرًا من أن الاستمرار في هذا المسار سيؤدي فقط إلى مزيد من سفك الدماء وإطالة أمد النزاع.
وفي خطوة غير مسبوقة، أشار "هيجسيث" إلى أن واشنطن تعتزم التخلي عن دورها التاريخي في ضمان الأمن الأوروبي، الذي تبنته منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، داعيًا الحكومات الأوروبية إلى تحمل المسؤولية الرئيسية عن دفاعها وتولي مهمة دعم أوكرانيا.
مفاوضات عاجلة
وسارع ترامب إلى تأكيد هذا التحول الاستراتيجي عبر إعلانه عن إجراء محادثة هاتفية "مطولة ومثمرة للغاية"، حسب وصف الصحيفة، مع بوتين، كاشفًا عن اتفاق فوري لبدء المفاوضات.
وأشار "ترامب" إلى أن فريقًا أمريكيًا رفيع المستوى، يضم وزير الخارجية ماركو روبيو، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية جون راتكليف، ومستشار الأمن القومي مايكل والتز، سيقود المحادثات بشأن أوكرانيا.
وفي تصريح لافت، أبرزته "بوليتيكو"، قال ترامب: "ملايين الأرواح فُقِدت في حرب ما كانت لتندلع لو كنت رئيسًا، لكنها وقعت، والآن يجب أن تتوقف.. لا يمكن أن نسمح بفقدان المزيد من الأرواح".
انقسام أوروبي
أثار الإعلان الأمريكي المفاجئ موجة من ردود الفعل المتباينة في أوروبا، وأظهر انقسامًا عميقًا في مواقفها، إذ أكدت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، أنه "لن يتم اتخاذ أي قرار بشأن أوكرانيا دون أوكرانيا"، مشددة على أن "السلام لا يمكن تحقيقه إلا بالشراكة مع كييف والأوروبيين".
وفي موقف مماثل، شددت وزيرة خارجية لاتفيا، بايبا برازه، على أهمية "دور أوكرانيا الفاعل في أي محادثات سلام".
وعلى نفس النهج، سار وزير الخارجية البولندي رادوسلاف سيكورسكي، الذي دعا لتكثيف الدعم العسكري لأوكرانيا قبل الدخول في أي مفاوضات مع موسكو.
أما فرنسا، فأصرت على ضرورة الحفاظ على مسار انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، في تحدٍ واضح للموقف الأمريكي الجديد الذي استبعد هذا الخيار.
في حين لم تصدر رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين أي تعليق فوري، واكتفت كبيرة الدبلوماسيين في الاتحاد كايا كالاس، بالتغريد أن "أوروبا يجب أن يكون لها دور مركزي في أي مفاوضات"، مؤكدة أن "استقلال أوكرانيا وسلامة أراضيها أمر غير قابل للتفاوض".
حذر زيلينسكي
من جهته، تعامل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مع الموقف بدبلوماسية حذرة، ووصف محادثته مع ترامب بأنها "ذات مغزى".
وكتب على منصة "إكس": "لا أحد يريد السلام أكثر من أوكرانيا.. نحن نرسم مع الولايات المتحدة خطواتنا المقبلة لوقف العدوان الروسي وضمان سلام دائم وموثوق".
وفي موقف لافت، قال أوليكسندر ميريجكو، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان الأوكراني، إن تصريحات هيجسيث "غير منطقية"، مقترحًا أن "يبدأ وزير الدفاع الجديد بزيارة أوكرانيا والتعرف على القوات المسلحة الأوكرانية".
ويعتقد "ميريجكو" أن استعادة كامل الأراضي الأوكرانية "أمر ممكن"، لكنه يتطلب المزيد من المساعدات العسكرية-التقنية الأمريكية وتشديد العقوبات على روسيا.
أما بريطانيا، فاتخذت موقفًا وسطيًا، وأبدى وزير دفاعها جون هيلي، تفهمًا للموقف الأمريكي الجديد، قائلًا: "نسمعكم.. فيما يتعلق بتعزيز دعم أوكرانيا، نحن نفعل ذلك وسنواصل.. وفيما يتعلق بتعزيز الأمن الأوروبي، نحن نفعل ذلك وسنواصل".
تداعيات بعيدة المدى
وأشارت "بوليتيكو" إلى أن هذا التحول في الموقف الأمريكي يحمل في طياته تداعيات استراتيجية بعيدة المدى، إذ أعلن هيجسيث بشكل قاطع استبعاد انضمام أوكرانيا إلى الناتو كجزء من أي ضمانات أمنية مرافقة لاتفاق السلام، كما استبعد مشاركة القوات الأمريكية في أي مهمة لحفظ السلام، مؤكدًا أن حلف الناتو كمنظمة يجب ألا يكون له دور في هذا الشأن.
وفي المقابل، تمسكت فرنسا بموقف مغاير، إذ أكد وزير خارجيتها جان نويل بارو، أن بلاده "متمسكة بمسار انضمام أوكرانيا إلى الناتو".
وأضاف: "إذا كان هناك سلام، نحتاج إلى ضمانات أمنية حتى يكون عادلًا ودائمًا.. إن الأمن الأوروبي هو ما يتعرض للخطر مع هذه الحرب العدوانية التي أخلت بالنظام العالمي، ولا يمكننا العودة إلى عالم ما قبل الغزو".
عقبات محتملة
وأشارت "بوليتيكو" إلى أن خطة السلام الأمريكية-الروسية تواجه تحديات جَمَّة في طريق تنفيذها، فالموقف الأوروبي المنقسم يشكل عقبة رئيسية، خاصةً مع إصرار القوى الكبرى على ضرورة مشاركتها في أي مفاوضات.
كما أن الموقف الأوكراني، رغم مرونته الظاهرية، يحمل في طياته تحفظات جوهرية على أي تسوية قد تتجاهل مصالح كييف الأساسية.
وأكدت الصحيفة أن غياب التنسيق المسبق بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين قد يؤدي إلى تعقيدات إضافية في مسار المفاوضات، فالإعلان المفاجئ عن المبادرة، وطريقة إشراك زيلينسكي كطرف ثانوي في المحادثات، أثارا استياءً واسعًا في العواصم الأوروبية.