يشهد النظام المالي العالمي تحولًا جذريًا غير مسبوق، مع اقتراب انعقاد تجمع بريكس 2024 في مدينة قازان الروسية، إذ بحسب تحليل صحيفة "الإيكونوميست" البريطانية، تقف المجموعة على أعتاب إطلاق مبادرة تاريخية؛ تهدف إلى إعادة تشكيل هيكل المدفوعات العالمية وتقليص الاعتماد على الدولار الأمريكي، في ظل توسع المجموعة من خمس دول إلى عشر دول، ما يُمثل أكبر تحدٍ لهيمنة الدولار منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
خريطة الهيمنة المالية الأمريكية
تقدم الإيكونوميست تحليلًا عميقًا لطبيعة الهيمنة المالية الأمريكية التي تتجاوز مجرد كون الدولار عملة احتياط عالمية، فبينما يستحوذ الأخير على 58% من احتياطيات العملات الأجنبية العالمية، تمتد سيطرته لتشمل النظام المصرفي العالمي بأكمله من خلال شبكة معقدة من البنوك المراسلة.
ويكشف التقرير أن نظام "سويفت"، الذي يضم نحو 11,000 بنك في 200 دولة، أصبح أداة محورية في هذه المنظومة، إذ استخدمت واشنطن هذه الأداة للضغط السياسي واقتصادي، حيث شهد العالم تطبيقات عملية لهذا النفوذ مع قطع إيران عن النظام في 2018، وفصل بنوك روسية عنه في 2022.
وتجلت قوة هذه الأداة في التصاعد الهائل لاستخدام العقوبات المالية، إذ ارتفع عدد الأشخاص الخاضعين للعقوبات الأمريكية بنسبة 900% خلال العقدين الماضيين، ليصل إلى نحو 9,400 شخص.
مشروع "جسر بريكس"
تكشف الصحيفة عن مشروع "جسر بريكس" الذي يمثل محور المبادرة الجديدة، إذ إن المشروع، الذي تم توثيقه في تقرير من 48 صفحة أعدته وزارة المالية والبنك المركزي الروسي، يهدف إلى إنشاء منصة رقمية مُتعددة الأطراف للتسويات عبر الحدود.
وتوضح الإيكونوميست أن النظام الجديد يستند إلى تقنيات العملات الرقمية للبنوك المركزية، مما يتيح إجراء المعاملات المالية مباشرة بين البنوك المركزية للدول الأعضاء، متجاوزًا الحاجة إلى استخدام الدولار كوسيط للتبادل.
التكنولوجيا المالية سلاح استراتيجي
تسلط المجلة البريطانية الضوء على استراتيجية الصين طويلة المدى في هذا المجال، موضحًا أن بكين تراهن على أن تكنولوجيا المدفوعات ستكون المفتاح لتقليص القوة التي تستمدها أمريكا من كونها مركز النظام المالي العالمي.
وتشير الإيكونوميست إلى أن النظام الجديد قد يستفيد من تجربة مشروع "mBridge" الذي طوره بنك التسويات الدولية بالتعاون مع البنوك المركزية في الصين وهونج كونج وتايلاند والإمارات العربية المتحدة.
هذا المشروع التجريبي أظهر قدرة مذهلة على تخفيض وقت المعاملات من أيام إلى ثوانٍ، مع خفض التكاليف بشكل كبير.
منظومة مالية متكاملة
تكشف الإيكونوميست عن خطط طموحة لبناء منظومة مالية متكاملة تتجاوز مجرد نظام المدفوعات، فبالإضافة إلى "جسر بريكس"، تعمل المجموعة على إنشاء وكالة تصنيف ائتماني مستقلة لمواجهة ما تصفه بـ"تسييس" وكالات التصنيف الغربية مثل "موديز ستاندرد آند بورز وفيتش".
كما تدرس إنشاء شركة إعادة تأمين لتجاوز القيود المفروضة على إعادة تأمين ناقلات النفط الروسية، وتطوير نظام بديل لبطاقات فيزا وماستركارد.
وتشير الصحيفة إلى أن روسيا دفعت أيضًا باتجاه إنشاء عملة مشتركة لتسعير التجارة، تستند إلى سلة من الذهب والعملات غير الدولارية، رغم تحفظات الهند على هذا المقترح.
صدمة العقوبات تدفع نحو التغيير
تقدم المجلة البريطانية تحليلًا معمقًا لكيفية مساهمة العقوبات الغربية في تسريع التحول عن الدولار، فتجميد 282 مليار دولار من الأصول الروسية في الخارج، وفصل البنوك الروسية عن نظام سويفت، وسرعة انسحاب شركتي فيزا وماستركارد من السوق الروسية، كلها عوامل دفعت العديد من الدول إلى إعادة تقييم اعتمادها على النظام المالي الأمريكي.
التحديات والفرص في المرحلة المقبلة
يتناول التقرير بالتفصيل التحديات الرئيسية التي تواجه النظام الجديد، فضمان السيولة الكافية للمعاملات سيتطلب دعمًا حكوميًا ضمنيًا كبيرًا، كما أن التدفقات غير المتوازنة للتجارة ورأس المال بين الدول الأعضاء، قد تؤدي إلى تراكم الأصول أو الالتزامات بعملات بعضها البعض.
ويضيف التقرير أن بناء الثقة بين الأعضاء يُمثل تحديًا إضافيًا، خاصة مع وجود توترات تاريخية بين بعض الدول مثل الهند والصين.
مستقبل النظام المالي العالمي
في تحليلها لمستقبل النظام المالي العالمي، تشير الإيكونوميست إلى وجود توجه عالمي مُتزايد نحو تنويع الخيارات المالية، إذ كشفت دراسة لمعهد أتلانتيك كاونسل أن 134 بنكًا مركزيًا حول العالم تجري تجارب على العملات الرقمية، كما تضاعف عدد البنوك المركزية العاملة على عملات رقمية للمعاملات عبر الحدود إلى 13 بنكًا منذ الأزمة الروسية الأوكرانية.
وتختتم الصحيفة تقريرها بنقل تساؤل الرئيس البرازيلي، لولا دا سيلفا، المثير للتفكير: "كل ليلة أسأل نفسي لماذا يجب أن تعتمد كل الدول في تجارتها على الدولار؟ من الذي قرر ذلك؟".