يأتي إجراء الانتخابات البلدية الثالثة في عمان، تعزيزًا لإرساء التقاليد الديمقراطية التي تعطي أهمية للمجتمعات المحلية، باعتبار أن تلك المجالس تعزز من دور اللامركزية والحكم المحلي، لاسيما وأنها الأجدر على مخاطبة واقع المجتمعات المحلية، والقادرة على التفاعل مع قضاياها واحتياجاته الأساسية، وبما يهدف إلى تفعيل أدوار المحافظات والولايات التابعة لها واستثمار مواردها المحلية من خلال شراكة مع الدولة والمجتمعات المحلية للاستفادة من مقوماتها وتفعيل مردودها.
وقد أجريت الانتخابات البلدية الثالثة في 25 ديسمبر 2022 لانتخاب ممثلي الولايات في هذه المجالس لكل محافظات سلطنة عمان، حيث أجريت العملية الانتخابية في 63 ولاية عمانية، بعد إضافة ولايتين جديدتين لأول مرة هما سناو بمحافظة شمال الشرقية، والجبل الأخضر بمحافظة الداخلية. كان قد سبقه تصويت الناخبين الموجودين خارج عمان في كافة دول العالم في 18 ديسمبر 2022، وقد شارك في هذه الانتخابات نحو 288 ألف ناخب من أصل 731 ألفًا يحق لهم التصويت، كما بلغت نسبة المشاركة في التصويت نحو 39.42 في المئة. فيما بلغ عدد الفائزين في الانتخابات 126 عضوًا بواقع عضوين عن كل ولاية من بين 696 مترشحًا في الانتخابات. وقد أسفرت الانتخابات عن تشكيل 11 مجلسًا بلديًا تمثل 11 محافظة عمانية هي محافظات: مسقط، ظفار، مسندم، البريمي، والداخلية، والباطنة، وشمال الباطنة، وشمال الشرقية، وجنوب الشرقية، والظاهرة، والواسطي.
وتبلغ مدة المجلس البلدي أربع سنوات، ويتشكل في كل محافظة من رئاسة المحافظ وعضوية أعضاء معينين بصفاتهم الوظيفية، وأعضاء منتخبين يمثلون الولايات التابعة للمحافظة بواقع عضوين عن كل ولاية واثنين من ذوي الكفاءة والرأي من أبناء المحافظة على ألا يكونا موظفين في إحدى وحدات الجهاز الإداري للدولة.
أهمية متزايدة:
تكتسب الانتخابات البلدية أهميتها بالنسبة للمجتمع العماني من عدة أوجه أولها، أنها تعد أول انتخابات بلدية تجري بعد تولي السلطان هيثم بن طارق مقاليد السلطة في البلاد في يناير 2020، والذي يولى أهمية فائقة للمجتمعات المحلية، سواء على المستوى التشريعي، من خلال تعديلات قانون المجالس البلدية وإصدار لائحته التنفيذية، وإصدار قانون المحافظات الجديد وفقًا للمرسوم السلطاني رقم 36 لعام 2022 وتخصيص مبالغ مالية لجميع محافظات سلطنة عمان لتنفذ المشروعات التنموية الداعمة للاحتياجات المحلية. وتأتي تلك الجهود في إطار تفعيل دور المجالس البلدية وتطوير تشريعاتها المنظمة للدفع بها نحو مزيد من الشراكة مع الحكومة في الشأن البلدي لإرساء مقومات التحول نحو اللامركزية الإدارية والاقتصادية كأحد ركائز خطة التنمية الخمسية 2021-2024 كداعم رئيسي لتحقيق مرتكزات وأهداف رؤية عمان 2040.
وثانيها، الرقمنة الانتخابية، حيث تم توظيف التكنولوجيا في جميع مراحل ممارسات العملية الانتخابية التي أجريت لأول مرة عبر الهواتف الذكية باستخدام تطبيق انتخب، واعتمادا على تقنية الذكاء الاصطناعي، وقد امتد توظيف الرقمنة الانتخابية بدءًا من القيد في السجلات الانتخابية مرورًا بالترشيح وانتهاءً بيوم التصويت، وفرز أصوات الناخبين وإعلان النتائج إلكترونيا بالكامل. ووفقا لتصريحات المهندس خالد بن هلال البوسعيدي رئيس اللجنة الرئيسية لانتخابات أعضاء المجالس البلدية للفترة الثالثة، فإن ثمة حرص على مواكبة التطور التقني، وأتمته الخدمات وتكامل بياناتها وعملياتها، وتوظيف التقنيات الرقمية الحديثة تماشيًا مع برنامج التحول الرقمي الحكومي ضمن أولوية تقنية المعلومات والاتصالات في رؤية عمان 2040 .
وثالثها، الحفاظ على دورية عقد الانتخابات البلدية كأحد المكتسبات الديمقراطية التي حققها المجتمع العماني، برغم تأجيل الانتخابات الحالية لمدة عامين بسبب أزمة كورونا، فهي تعد الانتخابات الثالثة منذ صدور قانون المجالس البلدية في عام 2011م، وتعديلاته في 2020، و2022، حيث أجريت الانتخابات البلدية الأولي في 2012، ثم الانتخابات البلدية الثانية في 2016 في عهد السلطان قابوس بن سعيد.
ورابعها، محورية الوظائف التي تقوم بها المجالس البلدية العمانية في تعزيز التنمية والمشاركة المجتمعية، لاسيما وأنها تقوم إجمالًا بثلاثة وظائف مركزية هي: الدور التنموي، والدور الخدمي، والدور الاستثماري، فوفقًا للمادة 21 من نظام المجالس البلدية الصادر وفق المرسوم السلطاني رقم 126 لسنة 2020، فإن هناك تنوعًا لمهام تلك المجالس، والتي تتمثل أبرزها في التالي: اقتراح وسائل استثمار موارد المحافظة من أجل تحقيق التنمية المستدامة وخلق فرص عمل للمواطنين، واقتراح الرسوم البلدية أو تعديلها أو إلغائها وطرق تحصيلها، ودراسة مشروعات خطط التنمية في نطاق المحافظة، واقتراح المشاريع الإنمائية فيها، وإبداء التوصيات المتعلقة بالصحة العامة، واقتراح لوائح الاشتراطات الصحية الخاصة بالأنشطة ذات الصلة بالصحة العامة، وإقرار البرامج الكفيلة بمساعدة الفئات المستحقة ورعاية الأيتام وذوي الإعاقة بالتنسيق مع الجهات المعنية، واقتراح البرامج الكفيلة بمساعدة المتضررين من الكوارث الطبيعية والأنواء المناخية، ودراسة القضايا الاجتماعية، والظواهر السلبية في المحافظة، واقتراح الحلول المناسبة لها بالتعاون مع الجهات المختصة.
انتخابات ذكية:
يعد الملمح الأهم للانتخابات البلدية في عمان، هو كونها أول دولة عربية تجرى انتخابات عبر تطبيقات الهواتف الذكية، والتي كانت لها تأثيراتها على العملية الانتخابية بشكل عام، وفى ظل تنوع نتائج تلك الانتخابات يمكن الإشارة إلى أبرزها في العناصر التالية:
(*) التصويت في الانتخابات: على الرغم من أن استخدام تطبيق الهواتف الذكية أسهم في تسهيل المشاركة في الانتخابات تصويتًا وترشحًا وتوفير الجهد والمال، إلا أن نسبة المشاركة في الانتخابات التي بلغت 39.42 في المئة، اقتربت من نتائج التصويت في انتخابات 2016 والتي بلغت 39.85 في المئة. وربما يعود ذلك في أحد جوانبه إلى تحديات مرتبطة بالتقنيات الفنية وكيفية استخدام التطبيق الانتخابي من قبل المصوتين، لاسيما وأن تلك المسألة مثلت إحدى الشكاوى الانتخابية التي تلقتها اللجنة المشرفة على الانتخابات.
(*) فاعلية الشباب:شهدت الانتخابات البلدية وفقًا لوزارة الداخلية ارتفاع في نسب مشاركة الشباب، حيث كانت الفئة العمرية من 31-40 هي الأكثر مشاركة في الانتخابات، تليها الفئة العمرية 41-50 ثم الفئة العمرية 21-30. وربما يعود ذلك إلى أن الشباب أكثر انخراطًا في العملية الانتخابية ترشحا وانتخابًا، وأكثر قدرة على استخدام التقنيات الحديثة، لاسيما وأن الهرم السكاني لعمان يغلب عليه المكون الشبابي، حيث تشكل فئتي الشباب والأطفال ثلثي السكان العمانيين بنسبة 63 في المئة. وتجدر الإشارة إلى أن عدد سكان سلطنة عمان بلغ أربعة ملايين و527 ألفًا و446 نسمة بنهاية ديسمبر 2021.
(*) تراجع المرأة: على الرغم من أن نسبة الإناث في سلطنة عمان وفقًا لإحصائية عام 2021 تبلغ 49.6 في المئة، إلا أن نتائج الانتخابات البلدية لم تسفر سوى عن فوز امرأة واحدة من بين 27 امرأة ترشحن على مقاعد الانتخابات البلدية، وللمفارقة فإن الفائزة هي فايزة بنت خلفان بن عبد الله الشامسية بولاية السنينة في محافظة البريمي. وهو الأمر الذي يعد تراجعًا لعدد العضوات بالمجالس البلدية للمرأة العمانية التي نجحت في اقتناص 4 مقاعد في انتخابات 2012 من بين 23 مترشحة، بينما حصلت في انتخابات الدورة الثانية عام 2016 على 7 مقاعد من بين 23 مترشحة.
(*) تنوع القضايا الانتخابية: انعكس توظيف التقنيات الحديثة في العملية الانتخابية على طبيعة البرامج الانتخابية، ووسائل ترويجها حيث أضحت وسائل التواصل الاجتماعي، والمواقع الإلكترونية للمترشحين هي الساحات الأبرز لطرح برامجهم الانتخابية، والتي دارت حول القضايا الخدمية من إسكان وتوظيف، وصحة عامة فضلاً عن مواجهة التضخم وارتفاع الأسعار التي أضحت سمة عالمية.
مجمل القول يمثل تشكيل المجالس المحلية للمحافظات العمانية، أحد ركائز صنع ومتابعة وتقييم السياسات العامة، وسيتوقف نجاح تلك المجالس على مدى قدرتها على صياغة أولويات المجتمعات المحلية واحتياجاتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ومدى قدرتها أيضا على توظيف مبادرات المجتمعات المحلية وإدماجها في السياسات التنموية للدولة حتى تتمكن من ترجمة مقولة رواد العمل التنموي القائمة على "فكر عالميًا واعمل محليًا".