شهدت الأسواق المالية العالمية أمس الاثنين، اضطرابات غير مسبوقة، حيث سجلت أسوأ أداء لها منذ سنوات، في حين أن هذا الانهيار المفاجئ في الأسواق، الذي تزامن مع توترات جيوسياسية متصاعدة في مختلف أنحاء العالم، يثير مخاوف جدية حول مستقبل الاقتصاد العالمي والاستقرار السياسي الدولي.
انهيار الأسواق العالمية
شهدت الأسواق المالية في آسيا وأوروبا والولايات المتحدة انهيارًا حادًا أمس الاثنين، في مشهد أعاد إلى الأذهان ذكريات الأزمة المالية العالمية في 2008. في اليابان، تراجع مؤشر نيكي بنسبة تجاوزت 12%، وهو ما دفع السُلطات إلى تفعيل آليات الطوارئ لوقف عمليات البيع الجماعي. أما في كوريا الجنوبية، فقد شهد السوق هبوطًا بنسبة قاربت 9%، وهو أسوأ أداء منذ الركود الكبير. الأسواق الأوروبية لم تكن بمنأى عن هذه الموجة، حيث سجلت خسائر تراوحت بين 2% و3%. وفي الولايات المتحدة، أشارت المؤشرات المبكرة في بورصتي داو جونز وناسداك إلى بداية أسبوع قاتم.
وفي تعليق له على هذه التطورات، صرح روبن بروكس، الزميل الأول في الاقتصاد العالمي والتنمية بمعهد بروكينجز، لصحيفة فورين بوليسي قائلًا: "الأسواق تشبه الطفل الصغير، فأنت دائمًا على بُعد نوبة غضب واحدة. الأمور بالنسبة للأسواق إما سوداء أو بيضاء؛ لا يوجد لون رمادي"، ما يلخص بدقة حالة الهلع التي سادت الأسواق، والتي تعكس مدى هشاشة الثقة في النظام المالي العالمي.
مزيج من العوامل المحلية والدولية
تعود أسباب هذه الاضطرابات إلى مجموعة معقدة من العوامل المترابطة، إذ إنه في الولايات المتحدة، جاءت بيانات التوظيف الأخيرة مخيبة للآمال، ما أثار مخاوف من احتمال حدوث تباطؤ اقتصادي بعد سنوات من النمو القوين ما وضع الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، أهم بنك مركزي في العالم، تحت ضغط كبير لخفض أسعار الفائدة بسرعة وبشكل كبير لمواجهة التباطؤ المحتمل.
في الوقت نفسه، شهد قطاع التكنولوجيا، الذي كان لفترة طويلة المحرك الرئيسي لنمو الاقتصاد الأمريكي، أداءً ضعيفًا، إذ أعلنت شركات عملاقة مثل إنتل عن نتائج مالية مخيبة للآمال، بينما شهدت أسهم شركة آبل موجة بيع كبيرة، ما أدى لتراجع حاد في أسهم شركات التكنولوجيا التي كانت تتداول بتقييمات مرتفعة تاريخيًا.
على الصعيد الدولي، جاءت الضربة القاضية من اليابان، إذ رفع البنك المركزي الياباني بشكل مفاجئ أسعار الفائدة من صفر تقريبًا إلى 0.25%، ورغم أن هذه الزيادة تبدو طفيفة، إلا أنها أحدثت زلزالًا في الأسواق العالمية، إذ اعتاد المستثمرون لسنوات على الاقتراض بأسعار فائدة شبه معدومة من اليابان واستثمار هذه الأموال في أصول أكثر ربحية في أماكن أخرى.
الآن، مع ارتفاع أسعار الفائدة وارتفاع قيمة الين، أصبحت هذه الاستراتيجية غير مجدية، ما دفع المستثمرين إلى بيع أصولهم في جميع أنحاء العالم لتغطية خسائرهم في الين.
التداعيات الاقتصادية والسياسية
تشتير فورين بوليسي إلى أن تداعيات هذا الانهيار في الأسواق المالية تتجاوز بكثير مجرد خسائر في القيمة السوقية للشركات، فهذا الانهيار يؤدي إلى محو مليارات، إن لم يكن تريليونات، الدولارات من الثروة الورقية. هذا الإفقار المفاجئ، وإن كان افتراضيًا، يمكن أن يتسرب قريبًا إلى جوانب حقيقية من الاقتصاد مثل ثقة المستهلكين، وثقة قطاع التصنيع، وبدء بناء المساكن، وخلق فرص العمل -وهي العناصر الأساسية للازدهار الاقتصادي الوطني والعالمي.
وسياسيًا تأتي هذه الاضطرابات المالية في وقت حساس بالنسبة للولايات المتحدة، التي تقترب من الانتخابات الرئاسية، كما أنه خلال فترة حكم الرئيس جو بايدن، شهد الاقتصاد الأمريكي ارتفعًا في أسعار الأسهم بشكل ملحوظ، لكن في الوقت نفسه، عانى المواطنون من ارتفاع الأسعار وزيادة تكاليف المعيشة.
الآن، مع ظهور مؤشرات على تباطؤ الاقتصاد وانخفاض حاد في أسواق الأسهم، قد يواجه الحزب الديمقراطي تحديات جديدة، إذ إن الناخبين عادة ما يربطون أداء الاقتصاد بالحزب الحاكم، وإذا استمر تراجع الأسواق المالية وبدأ الناس يشعرون بتأثير ذلك على حياتهم اليومية، فقد يؤثر ذلك سلبًا على فرص الديمقراطيين في الانتخابات القادمة.
في هذا السياق، يقول جاري هوفباور، وهو خبير اقتصادي في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، في حديث لصحيفة فورين بوليسي: "إن انهيار سوق الأسهم قد يعزز فرص دونالد ترامب في الولايات المتأرجحة. وهذا قد يكون خبرًا سيئًا للاقتصاد على المدى الطويل، نظرًا لسياسات ترامب الاقتصادية والتجارية المثيرة للجدل."
باختصار، فإن الوضع الاقتصادي الحالي يضع الحزب الديمقراطي في موقف صعب، فهم يحتاجون إلى إقناع الناخبين بأن الاقتصاد لا يزال قويًا وأن لديهم الخطط المناسبة لمعالجة أي مشاكل قد تظهر.
التوترات الجيوسياسية المتزايدة
ما يزيد الأمور سوءًا أن هذه الاضطرابات المالية تحدث في وقت يشهد توترات جيوسياسية حادة، فهناك حربان كبيرتان مستعرتان في أوروبا والشرق الأوسط، وفوضى متصاعدة في جنوب آسيا، واضطرابات في بريطانيا، وانقسام في أوروبا، وتزايد في النزعة التوسعية الصينية، ما يثير قلق جميع جيرانها، كل هذه العوامل مجتمعة تخلق بيئة متفجرة، يمكن أن تتفاقم بسرعة إذا ما أضيفت إليها أزمة اقتصادية عميقة.