لا يمكن رسم ملامح تطور الإعلام العربي دون التأثير المبكر والمتواصل للإذاعة المصرية التي تحتفل اليوم بالذكرى الـ90 لانطلاقها، إذ بدأ الجمهور يستمع للمرة الأولى إلى صوت المذيع أحمد سالم وجملته الشهيرة "هنا القاهرة" عبر موجات الراديو في الساعة الــ6:45 دقيقة من مساء يوم السبت 31 مايو عام 1934، والتي سبقها تلاوة قرآنية بصوت الشيخ محمد رفعت، وشهدت الدقائق الأولى من البثّ أيضًا أغنيات للفنانين أم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب، وصالح عبد الحي.
ما قبل ظهور الإذاعة المصرية بشكلها الاحترافي، كانت هناك محاولات عبر إذاعات أهلية ذات نطاق محدود في محافظتي القاهرة والإسكندرية، لكن تأسيس الإذاعة المصرية الرائد في الوطن العربي اعتمد على مضمون أكثر احترافية من الإذاعات الأهلية، وعدد ساعات بث أكثر يمتد إلى نطاق أوسع.
تزامن انطلاق الإذاعة المصرية مع حركات التحرر من الاستعمار في مصر والوطن العربي، فالبرامج الإذاعية التي غلب عليها في البداية الترفيه والمنوعات، تصاعد دورها بعد ذلك في تحفيز الشعوب وإثارة الحماس في قلوبهم، ولعبت دورًا توعويًا يُعْلي من قيم الوطنية والاستقلال والانتماء، خصوصًا مع إسناد إدارتها إلى الحكومة المصرية عام 1947، وتنظيم عملها لتصبح هيئة مستقلة مصرية بمقتضى القانون بعد صدور تشريع قانوني سنة 1949.
أصبحت الإذاعة المصرية جزءا من حياة المواطن المصري، يصحوا على برامجها قبل ذهابه إلى عمله أو دراسته، ويقضي أوقات المساء مستمتعا بمسلسلاتها وحفلاتها الغنائية في السهرة، لتصبح برامج مثل "ساعة لقلبك"، " كلمتين وبس"، "غنوة وحدوتة" الشهير بـ "أبلة فاضيلة"، "إلى ربات البيوت"، "قال الفيلسوف"، "همسة عتاب"، "على الناصية"، "طريق السلامة" و"لغتنا الجميلة"، وغيرها من البرامج طقسا يوميا وأسبوعيا للمواطن المصري والعربي.
وكان الخميس الأول من كل شهر حدثًا فنيًا مميزًا ينتظره الجمهور بمختلف أنحاء الوطن العربي، إذ كانوا يلتفون حول جهاز "الراديو" ليستمعوا إلى كوكب الشرق أم كلثوم تغني في إحدى حفلاتها، وتمتع الملايين في مصر وخارجها، ما أسهم في زيادة تأثير دور الإذاعة المصرية في توحيد الشعوب العربية، وترسيخ الريادة الإعلامية المصرية.
ساهم في قوة تأثير الراديو بشكل عام والإذاعة المصرية بشكل خاص قدرتها على الوصول إلى قطاعات مختلفة من الجمهور، سواء كان متعلمًا أم أميًّا، متفوقة في ذلك على الصحف القاصرة على من يعرف القراءة والكتابة، هذا الانتشار غير المسبوق جعل من الإذاعة المصرية وسيلة للتقارب الاجتماعي، خصوصًا أنها اعتمدت على كوارد إعلامية تتميز بالمهنية الشديدة.
يزخر تاريخ الإذاعة المصرية بأسماء العديد من الإعلاميين ممن كان لهم دور كبير في تعميق علاقة الجمهور بالراديو، منهم أحمد سالم، صفية المهندس أول امرأة تتولى رئاسة الإذاعة، وجلال معوض، ومحمد فتحي المُلقب بـ"كروان الإذاعة"، وآمال فهمي، ووجدي الحكيم، وآيات الحمصاني، وحمدي الكنيسي، وإيناس جوهر، ونادية صالح، وغيرهم من الإعلاميين الرواد في الإذاعة المصرية.
وتعد الإذاعة المصرية شاهدة على الكثير من مراحل التطور السياسي والكثير من الأحداث في الوطن العربي، وتزخر مكتبتها بوثائق صوتية لمعاهدة 1936، وبيان ثورة يوليو 1952، وأنباء عبور القوات المسلحة المصرية لقناة السويس وانتصار أكتوبر 1973، وخُطب الكثير من رؤساء مصر السابقين.