في خطوة غير مسبوقة، انتقلت الولايات المتحدة من التعنت والرفض المطلق لأي محاولات دولية لوقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، إلى طرح مشروع قرار أممي يدعو لـ"وقف فوري ومُستدام لإطلاق النار"، وتأتي هذه الخطوة بعد أكثر من 5 أشهر ونصف الشهر من الحرب المستمرة التي أودت بحياة الآلاف من الفلسطينيين، وأوصلت الأوضاع الإنسانية في القطاع إلى حافة الهاوية، مع تحذيرات مُتزايدة من احتمال حدوث مجاعة في غزة؛ بسبب الحصار الإسرائيلي المشدد.
فيتو يجهض المشروع
في حين أخفق مجلس الأمن الدولي في التصويت لصالح مشروع القرار الذي اقترحته الولايات المتحدة، والداعي لوقف فوري لإطلاق النار في غزة، بعدما صوتت روسيا والصين ضده واستخدمتا حق النقض "الفيتو"، جاء الفيتو الروسي والصيني على الرغم من أن 11 دولة من أصل 15 في المجلس صوتت لصالح مشروع القرار الأمريكي، الذي كان ينص على "وقف فوري ومستدام لإطلاق النار لمدة 6 أسابيع" بهدف حماية المدنيين وإيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة.
وربط مشروع القرار بين وقف إطلاق النار والمحادثات الجارية برعاية مصرية قطرية أمريكية لإطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين لدى حركة حماس مقابل وقف الحرب.
لكن روسيا اعتبرت أن المشروع "مسيس"، ويعطي الضوء الأخضر لإسرائيل لشن عملية عسكرية جديدة، فيما وصفته الولايات المتحدة بأنه "سخيف" وانتقدته موسكو وبكين لعدم بذل جهود دبلوماسية حقيقية.
ومع فشل المشروع الأمريكي، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أن بلاده ستعمل على صياغة قرار جديد مع شركائها؛ لوقف إطلاق النار في غزة بعد الفيتو الروسي والصيني.
وقف إطلاق النار يتصدر المشهد
في مؤشر على التغير الكبير في الموقف الأمريكي، نص مشروع القرار الذي قدمته الولايات المتحدة على "وقف فوري ومستدام لإطلاق النار لمدة ستة أسابيع تقريبًا" بهدف توفير الحماية للمدنيين والسماح بإيصال المساعدات الإنسانية، في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة في السابق ترفض حتى استخدام مصطلح "وقف إطلاق نار"، واستخدمت حق النقض (الفيتو) ثلاث مرات لإحباط أي محاولة أممية في هذا الاتجاه.
الأسرى وصفقة التبادل.. ثوابت إسرائيلية
رغم التركيز على ضرورة وقف إطلاق النار كأولوية، إلا أن مشروع القرار الأمريكي لا يغفل ثوابت الموقف الإسرائيلي المتشدد، حيث يدعم أيضًا "الجهود الدولية الهادفة لإطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين لدى حركة حماس، والإفراج عن فلسطينيين معتقلين في السجون الإسرائيلية".
ويُركز المشروع على إعطاء الأولوية للمفاوضات بشأن صفقة تبادل الأسرى، والتي عادت لتكتسب زخمًا إضافيًا في الأيام الأخيرة، حيث يسافر مدير الاستخبارات المركزية الأمريكية، وليام بيرنز، ومدير الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد) ديفيد برنياع إلى الدوحة لاستكمال تلك المفاوضات مع الوسطاء المصريين والقطريين.
حبل مشدود وإمساك للعصا من المنتصف
تمثل صياغة مشروع القرار الأمريكي إمساكًا للعصا من المنتصف، في محاولة حفاظ واشنطن على توازنات هشة، فالمشروع لا يطالب بوقف إطلاق النار بشكل مباشر، بل يؤكد على "حتمية" ذلك.
وفي الوقت نفسه، تواصل الإدارة الأمريكية الضغط على حماس لقبول صفقة محدودة تشمل إطلاق سراح 40 محتجزًا إسرائيليًا من النساء وكبار السن مقابل وقف إطلاق نار لمدة 6 أسابيع.
تلك الصياغة المحسوبة تعكس الحبل المشدود الذي تسير عليه واشنطن وسعيها لاستعادة مصداقيتها المفقودة ودورها القيادي على المسرح الدولي، وسط تحديات غير مسبوقة من الصين وروسيا؛ لذا فهي تحاول بشتى الطرق الحفاظ على الدعم المحدود لإسرائيل من جهة، ولكن أيضًا عدم التورط في الكارثة الإنسانية الجارية في غزة من جهة أخرى.
الضغوط المتزايدة على إسرائيل
بعد شهور من التأخير والمماطلة والتساهل مع الموقف الإسرائيلي المتشدد، بدأت الإدارة الأمريكية برئاسة جو بايدن تضغط بشكل أكبر على حليفتها الإسرائيلية؛ لقبول وقف فوري للعمليات العسكرية ضد غزة.
حتى زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ تشاك شومر، المعروف بدعمه القوي لإسرائيل، وجه انتقادات لاذعة لرئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، ووصفه بأنه "عقبة أمام السلام" في خطاب علني نادر، داعيًا لتشكيل حكومة إسرائيلية جديدة.
كما شنت سامانثا باور، مساعدة وزير الخارجية الأمريكي المكلفة بالشؤون الإنسانية، هجومًا على إسرائيل قائلة إنها وحدها تتحمل المسؤولية الرئيسية عن أي مجاعة في غزة إذا لم تغير موقفها من دخول المساعدات.
وفي مؤشر على زيادة الضغوط الدولية على إسرائيل، أصدر قادة الاتحاد الأوروبي الخميس دعوة لوقف فوري لإطلاق النار في غزة، كما أعلن رئيس مجلس النواب الأمريكي الجمهوري، مايك جونسون، عن نيته توجيه الدعوة لنتنياهو لإلقاء خطاب أمام جلسة مشتركة للكونجرس، وهو ما قد يستغله نتنياهو للهجوم على إدارة بايدن واتهامها بالتساهل مع أعداء إسرائيل.
قلق بايدن من المعارضة الداخلية المتزايدة
ينبع قلق بايدن من ارتفاع وتيرة المعارضة السياسية الداخلية لموقفه من الحرب على غزة، وبصفة خاصة الموقف الداعم لإسرائيل بشكل مطلق، في ظل اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية القادمة.
حتى وزير الخارجية أنتوني بلينكن، الذي يزور المنطقة حاليًا للمرة السادسة منذ أكتوبر 2023، بذل جهودًا لربط وقف إطلاق النار بصفقة الأسرى في محاولة لإرضاء الجانب الإسرائيلي، إذ قال بلينكن إنه يعتقد أن المحادثات التي تتوسط فيها مصر وقطر وأمريكا لا يزال من الممكن أن تقود لاتفاق هدنة لـ 6 أسابيع تتضمن الإفراج عن المحتجزين الإسرائيليين.
وراء هذه المواقف المتناقضة، تبدو واشنطن في موقف لا تحسد عليه، محاصرة بين حليفتها التقليدية إسرائيل من جهة، وبين الإدانة الدولية المتزايدة للكارثة الإنسانية في غزة من جهة أخرى؛ لذا فإن النص الدقيق لمشروع القرار يفسح المجال أمامها في حال فشلت المفاوضات، ويضع ضغوطًا أكبر على إسرائيل لقبول هدنة الأسابيع الستة على الأقل.