الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

الصناعة النووية الفرنسية بين الانهيار والنهضة

  • مشاركة :
post-title
محطة طاقة نووية- صورة أرشيفية

القاهرة الإخبارية - محمد البلاسي

تبدو الطاقة النووية، وكأنها قد صُممت خصيصًا لهذا العصر، فهي لا تطلق انبعاثات كربونية، وتوفر الكهرباء، ويمكن الاعتماد عليها في حال عدم كفاية الطاقة أو الألواح الشمسية أو الرياح، وذلك من خلال التوربينات، كما أنها لا تترك مشغليها رهينة للوقود الأحفوري، ومع تلاشي ذكريات انصهار قلب مفاعل "فوكوشيما" في اليابان قبل 11 عامًا، تفكر دول، من بريطانيا إلى الهند، في الانشطار النووي، كجزء مهم من مزيج الطاقة في المستقبل، وبحسب مجلة "إيكونومست" البريطانية، فإن ألمانيا التي تشكك في جدوى الطاقة النووية، حتى إنها قررت إيقاف مفاعلاتها النووية في أعقاب كارثة "فوكوشيما"، شعرت الحكومة هناك بأنها مضطرة في أكتوبر الماضي إلى تمديد عمر المفاعلات الثلاثة المتبقية حتى أبريل 2023.

مقومات فرنسية

وإذا كان هناك بلد واحد يجب أن يتمتع بالفعل بجميع مزايا هذه القوة الوفيرة الخالية من الكربون، فهي فرنسا، وتقول "إيكونومست" إن "الأسطول" النووي الفرنسي، يتكون من 56 مفاعلًا، يمثلون نحو 70٪ من القدرة الوطنية لتوليد الكهرباء، وهي أعلى حصة في العالم لتوليد الكهرباء من الطاقة النووية، وتفوق الرقم المماثل في الولايات المتحدة، بأكثر من ثلاثة أضعاف، ويسمح ذلك للفرنسيين بالتسبب في انبعاث 4.5 طن فقط من ثاني أكسيد الكربون لكل شخص في الظروف العادية، أي أقل بكثير من الألمان المعتمدين على الغاز (7.9 طن) أو الأمريكيين المحبين للسيارات (14.7 طن).

فرنسا تستورد الكهرباء من ألمانيا

وبعبارة أخرى، ترى المجلة البريطانية أنه ينبغي لفرنسا أن تنعم بالشعلة الدافئة لتفاعلات الانشطار النووي الخاضعة للرقابة، ولكن، بدلًا من ذلك، وبعد عقد من سوء الإدارة والإشارات السياسية المختلطة، تحاول صناعتها النووية تجنب الانهيار من الداخل، فثلث مفاعلات فرنسا القديمة عاطلة عن العمل، بسبب الصيانة ومشكلات فنية أخرى، ويحذّر الخبراء من انقطاع التيار الكهربائي خلال فترات البرد القارس في وقت لاحق من هذا الشتاء، ومن أجل مواكبة الطلب، يتعين على فرنسا استيراد الكهرباء باهظة الثمن من ألمانيا، كما تحاول الدولة إنقاذ الشركة المسؤولة عن إدارة المفاعلات EDF لإنقاذها من الإفلاس، بينما يرى، لوك ريمون، رئيس الشركة، المعين حديثًا، أن المفاعلات الفرنسية تواجه "أزمة خطيرة"، ويعتمد حل أزمات القطاع النووي الفرنسي على الكثير من الأمور.

الطاقة النووية الفرنسية.. درس موضوعي أم "تحذير"

من جهة أخرى، تعتمد أوروبا على الصناعة النووية الفرنسية لتخفيف العبء عن نظام الطاقة المحاصر في القارة هذا الشتاء، بينما يعتمد، إيمانويل ماكرون، الرئيس الفرنسي عليها في النهضة النووية الوطنية، وعلى نطاق أشمل، قد يحدد نجاح منظومة الطاقة النووية في فرنسا، ما إذا كانت الدول التي قررت التحول إلى استخدام الطاقة النووية، سوف تنظر إلى التجربة الفرنسية على أنها "درس موضوعي"، أو "قصة تحذيرية".

حل مشكلة ندرة الوقود الأحفوري بالطاقة النووية

ومن أجل فهم المأزق الحالي للقطاع النووي الفرنسي، يجدر بنا العودة إلى جذور المشكلة في عام 1973، وفي ذلك الوقت، كانت معظم محطات الطاقة الفرنسية تعمل بالبترول، ومع ندرة الوقود، خلص السياسيون الفرنسيون إلى أنه من أجل أن تكون فرنسا دولة ذات سيادة، تحتاج إلى مصدر طاقة يمكنها التحكم فيه، وبدت الطاقة النووية مجرد دخول لهذا العالم، فقد عرفت فرنسا بالفعل شيئًا عن التكنولوجيا النووية، وقامت ببناء قنبلة ذرية وغواصات نووية، كما تباهت بفريق من المهندسين، التحق معظمهم بالجامعة نفسها، "مدرسة البوليتكنيك"، وقد سمح النظام السياسي المركزي في البلاد للسلطة التنفيذية القوية بتنفيذ البرنامج الطموح دون إجراء الكثير من المشاورات مع الجمهور الفرنسي أو ممثليهم المنتخبين.

الانخراط في الطاقة النووية بشكل سريع

وكان لهذا النشاط السريع مزايا كبيرة، وشكل حاسم، مكّن فرنسا من الاستمتاع بما تسميه أنواع الصناعة "تأثير الأسطول"، فبناء المفاعل أمر معقد للغاية ويتطلب الكثير من التعلم عن طريق الممارسة، وطالما استمر ذلك، ازدادت الخبرة، مما يجعل كل مشروع جديد أسهل من سابقه، وبين عام 1974 وأواخر الثمانينيات، قامت شركة EDF بإدخال المفاعلات إلى الخدمة، بوتيرة تصل إلى ستة مفاعلات في السنة، مع تحرك أطقم البناء بسرعة من مفاعل إلى آخر.

مشكلات كبيرة في المفاعلات الفرنسية

ومع ذلك، خلق ذلك النشاط عددًا من المشكلات العالقة، فمن الناحية الفنية، كان البناء بشكل شبه جماعي للمفاعلات، خلال بضع سنوات، يعني أن المفاعلات ستخضع لتجديدها، في الوقت نفسه تقريبًا، وبما أنها مبنية بالمعايير نفسها، فإن المشكلات الموجودة في أحدها، قد تؤدي إلى إصلاحات في حالات أخرى، ونتيجة لذلك، فإن "عامل الحمولة" للمفاعلات الفرنسية، وهو مقياس لما إذا كان المفاعل يعمل بكامل طاقته، يبلغ نحو 60٪ أو نحو ذلك، مقارنة بأكثر من 90٪ في المفاعلات الأمريكية، وفي عام 2021، تم استنفاذ نحو 5810 يومًا من أيام عمل المفاعلات بسبب الانقطاعات، منها ما يقرب من 30٪ بسبب أحداث ومشكلات لم يكن مخططًا لها، وذلك بحسب تقرير حالة الصناعة النووية العالمية، وهو منشور مستقل، كما تستمر أحدث التجديدات في الكشف عن مفاجآت ومشكلات أكبر، فقبل عام اكتشفت شركة EDF شقوقًا بسبب التآكل في أنظمة التبريد الأساسية الطارئة لبعض المفاعلات، مما دفع الشركة إلى إغلاق 16 منها، ثلاثة أعيدوا إلى الخدمة، بينما لا يزال 13 منها في حالة "خمول".

دولة داخل الدولة وقرارات تجارية

قالت المجلة البريطانية إن سلطة الإشراف على الصناعة سرعان ما أصبحت دولة داخل دولة، وأدى هذا إلى بعض القرارات التجارية في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فقد طورت شركة "فراماتوم"، وهي الشركة التي بنت المفاعلات لصالح EDF، من طموحاتها الخاصة، تحت إدارة جديدة، واسم جديد، "أريفا" ووقعت عقدًا مع فنلندا لبناء نوع جديد من المفاعلات، يسمى مفاعل الماء المضغوط الأوروبي EPR، والذي طورته بالاشتراك مع شركة "سيمنز" الألمانية العملاقة، وحتى لا يتفوق عليها أحد، قررت شركة EDF بناء مفاعلات جديدة من النوع نفسه في مقرها بمنطقة "فلامانفيل".

الفساد الإداري والفشل

بدأ كل من "أريفا" وEDF البناء قبل أن يعرفا بالضبط ما الذي سيبنيانه وكم سيكلف، ويحدث هذا، عندما يتعاون الفرنسيون والألمان، وكانت مفاعلات EPR وحشًا معقدًا للغاية، لأسباب ليس أقلها أنه كان عليها إرضاء المفتشين النوويين في كلا البلدين، والنتيجة هي أنه لم ينتج أي من المفاعلين الكثير من الكهرباء حتى الآن، وكلاهما تجاوز الميزانية، كما تسبب المشروع الفنلندي، في إفلاس "أريفا"، التي استحوذت شركة EDF على مفاعلاتها في عام 2017، ما أدى إلى ارتفاع تكلفة بناء المفاعل في "فلامانفيل" من السعر الأصلي البالغ 3.3 مليار يورو (4.8 مليار دولار في ذلك الوقت) إلى 19 مليار يورو.

صفقات سياسية ومصالح انتخابية

وفي النهاية، أدى تجاوز الهيئات التشريعية، والذي ربما أدى إلى تسريع الأمور في البداية، إلى جعل السياسة النووية الفرنسية أكثر عرضة للمتغيرات السياسية، وفي عام 2012، أقنع الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند، حزب الخضر بدعم حملته الرئاسية الناجحة مقابل وعد بإغلاق أقدم مفاعلين في البلاد في "فيسنهايم"، بالقرب من الحدود الألمانية، والحد من الاعتماد على الطاقة النووية في توليد الكهرباء في البلاد إلى 50٪، بحلول عام 2025، مما يعني إغلاق ما يصل إلى 20 مفاعلًا، وحافظ "أولاند" على الوعد الأول وليس الثاني، ومثلما يولد النجاح النووي المزيد من النجاح، يتغذى الفشل النووي على نفسه، حين يصبح تجديد الخبرة المفقودة أكثر صعوبة.

"ماكرون" يريد إحياء النهضة النووية

وحاليا، يريد الرئيس "ماكرون"، حتى قبل اندلاع الأزمة الأوكرانية، البدء في بناء مفاعلات جديدة مرة أخرى، وتحديدًا، ستة مفاعلات على الأقل وما يصل إلى 14 مفاعلًا إذا سارت الأمور على ما يرام، وأعلن: "علينا أن نلتقط خيط المغامرة العظيمة للطاقة النووية المدنية"، وسيكون للدولة الفرنسية سيطرة كاملة على شركة EDF في غضون أسبوعين من الآن، وبحسب "إيمانويل أوتييه"، الخبير بمؤسسة "بريكنج بوينت" فقد "عادت الدولة الفرنسية الآن إلى السلطة بالكامل".

وتتمثل المهمة الأصعب في أن يقوم رئيس شركة EDF المختار بعناية من قِبل الرئيس، بإعادة أكبر عدد ممكن من المفاعلات إلى العمل مرة أخرى، حيث تعهدت الشركة بتشغيل معظم المفاعلات بحلول يناير، وهو ما يبدو هدفًا طموحًا، ولكن يجب أن يتعامل الرئيس التنفيذي الجديد مع خسائر انقطاعات الكهرباء، ومع السقف الذي حددته الحكومة على زيادات التعريفة المفروضة على فواتير الكهرباء، من أجل درء الغضب من ارتفاع أسعار الطاقة، بالإضافة إلى مطلب بيع بعض الكهرباء بسعر مخفض للموردين المنافسين، ما يمكن أن يكلف شركة EDF نحو 42 مليار يورو هذا العام من إجمالي الخسائر التشغيلية، حسب تقديرات وكالة موديز للتصنيف، ومع بلوغ صافي الدين بالفعل 90 مليار يورو، ارتفاعًا من نحو 70 مليار يورو في العام الماضي، سيتعين على الرئيس التنفيذي إقناع الدولة بتزويد الشركة برأس مال إضافي لتغطية تكلفة التجديد الكبير المقبل، والذي قد يكلف 50 مليار يورو إلى 60 مليار يورو، علاوة على تكلفة بناء مفاعلات جديدة.