يأتي انعقاد المؤتمر الاقتصادي المصري في الفترة من 23 إلى 25 أكتوبر 2022، في ظل مربكات عالمية لا تزال تلقي بظلالها على جميع الاقتصادات بلا استثناء، فاندلاع الأزمة الأوكرانية الروسية أصاب عصب الاقتصاد العالمي بعد نشوب أزمة طاقة عالمية عمّقت من معاناة الدول المتقدمة والنامية على حد سواء، وهددت استقرار مجتمعات ظلت تتمتع بالرفاهية لعقود متتالية، فأوروبا تعتمد على 40 في المئة من استهلاكها على الغاز الروسي، كما أسهمت تلك الأزمة في تهديد اقتصادات الدول الناشئة بعد تعطل سلاسل الإمدادات والتوريد، بما أدى إلي ارتفاع أسعار السلع الأساسية. وهو الأمر الذي جعل التقديرات تشير إلى توقع تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي إلى 3.2 في المئة في عام 2022، ويستمر في الانخفاض إلى 2.7 في المئة في عام 2023 بما يؤدى لحالة من الركود الاقتصادي العالمي.
في ضوء تلك التحديات كان من الضروري الحفاظ على المكتسبات التي حققها الاقتصاد المصري ومرونته في تجاوز تداعيات الأزمة الروسية الأوكرانية، وقبلها الآثار السلبية لجائحة كورونا، وهو ما تجلى في قدرة النموذج التنموي المصري على امتصاص الصدمات الاستثنائية والطارئة، تمكن من تحقيق معدل نمو في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 6.6 في المئة للعام المالي 2021/2022.
من هنا جاءت الدعوة لعقد المؤتمر الاقتصادى لوضع تصورات بشأن مستقبل الاقتصاد المصري وأولوياته التنموية، وكيفية مواجهة التحديات الناجمة عن الأزمات الاقتصادية العالمية والتكيف مع تداعياتها، بحيث أضحى الهدف الرئيسي من عقد المؤتمر وفق أجندته هو "التوافق على خريطة الطريق الاقتصادية للدولة خلال الفترات المقبلة، واقتراح سياسات وتدابير واضحة تسهم في زيادة تنافسية ومرونة الاقتصاد المصري".
جاءت المحاور الثلاثة للمؤتمر التي تمت مناقشتها على مدار ثلاثة أيام كالتالي: الأول مناقشة السياسات الاقتصادية الكلية "حوار الخبراء"، أما الثاني فتحليل فرص تعزيز القطاع الخاص وتهيئة بيئة الأعمال، فيما رصد المحور الثالث خارطة الطريق للقطاعات ذات الأولوية بالاقتصاد المصري. ولا شك أن تلك المحاور وبما طرحته من نقاشات عبر جلسات المؤتمر والقضايا المدرجة على جدول أعماله مثّلت ترجمةً للأولويات التنموية للجمهورية الجديدة والتي تقوم على الركائز التالية:
1. إرساء نموذج تنموي مستدام: تقوم الفلسفة الاقتصادية الناظمة للتوجهات الاقتصادية في الجمهورية الجديدة على ركائز رؤية مصر 2030. أجندة وطنية أُطلقت في فبراير 2016، وحُدثت مطلع 2018، وتعكس الخطة الاستراتيجية طويلة المدى للدولة لتحقيق مبادئ وأهداف التنمية المستدامة في كل المجالات، وتوطينها بأجهزة الدولة المصرية المختلفة. تستند الرؤية على مبادئ التنمية المستدامة الشاملة و"التنمية الإقليمية المتوازنة"، وتعكس الرؤية الأبعاد الثلاثة للتنمية المستدامة: البعد الاقتصادي، البعد الاجتماعي، والارتقاء بجودة حياة المواطن المصري وتحسين مستوى معيشته في مختلف نواحي الحياة، من خلال تأكيد ترسيخ مبادئ العدالة والاندماج الاجتماعي ومشاركة جميع المواطنين في الحياة السياسية والاجتماعية. يأتي ذلك جنبًا إلى جنب مع تحقيق نمو اقتصادي مرتفع، احتوائي ومستدام وتعزيز الاستثمار في البشر وبناء قدراتهم الإبداعية، من خلال الحث على زيادة المعرفة والابتكار والبحث العلمي في جميع المجالات. وتعطي رؤية مصر 2030، أهمية لمواجهة الآثار المترتبة على التغيرات المناخية، من خلال وجود نظام بيئي متكامل ومستدام يعزز المرونة والقدرة على مواجهة المخاطر الطبيعية. كما تركز الرؤية على حوكمة مؤسسات الدولة والمجتمع، من خلال الإصلاح الإداري وترسيخ الشفافية، ودعم نظم المتابعة والتقييم وتمكين الإدارات المحلية. وتأتي كل هذه الأهداف المرجوة، في إطار ضمان السلام والأمن المصري وتعزيز الريادة المصرية إقليميًا ودوليًا. وترجمة لتلك التوجهات على أرض الواقع ناقش المحور الأول من جلسات المؤتمر الاقتصادي سياسات الاقتصاد الكلي على المستويين العالمي والمحلي، وطرح رؤى ومبادرات كبار الاقتصاديين حول أنسب السياسات الاقتصادية وأفضل الممارسات الدولية المستهدف تطبيقها لدعم الاقتصاد المصري في ضوء تحقيق رؤية مصر 2030، وكذلك التطرق إلى آلية تمويل تلك السياسات.
2. تدعيم الشراكة مع القطاع الخاص: تعد وثيقة ملكية الدولة التي أطلقت في منتصف يونيو 2022، تضم القطاعات والصناعات التي تخطط الحكومة للتخارج منها أو زيادة حصتها فيها، خطوة رئيسية في إطار زيادة فرص مشاركة القطاع الخاص بالاقتصاد، تمثل رسالة اطمئنان للمستثمر المحلي، وعنصر جذب للاستثمار الأجنبي، كما تسهم في تعزيز ثقة المؤسسات الدولية، بما يجعلها خطة متكاملة تستهدف تمكين القطاع الخاص وتنظيم تواجد الدولة في النشاط الاقتصادي، استكمالًا للإصلاحات الحكومية التي تتبناها الدولة المصرية. ووفقًا للدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء المصري، فإن الوثيقة تهدف إلى مشاركة أكبر للقطاع الخاص في الاقتصاد المصري، ليمثل 65 في المئة من النشاط الاقتصادي خلال 3 سنوات مقبلة. وتعزيزًا لتلك الشراكة ووضع وسائل لتنفيذها يأتي المحور الثاني للمؤتمر الذي ناقش الإطار العام لتمكين القطاع الخاص وتهيئة بيئة الأعمال لإقرار وثيقة سياسة ملكية الدولة، وإتاحة قروض ميسّرة من المؤسسات الدولية المعنية بدعم القطاع الخاص، كما تطرق ذلك المحور إلى دور الصندوق السيادي للدولة المصرية والفرص التي يتيحها ورؤيته لتعظيم الشراكة مع القطاع الخاص في المشروعات التنموية التي ينفذها الصندوق لدعم التنمية الاقتصادية، من خلال تعظيم الاستفادة من أصول الدولة والحفاظ على الموارد للأجيال القادمة.
3. محورية المشروعات القومية الكبرى: تعد المشروعات القومية الكبرى قاطرة التنمية للاقتصاد المصري، كما أنها تمثل أحد الملامح الرئيسة للفلسفة الاقتصادية للجمهورية الجديدة، لا سيما أنها تعد مشروعات كثيفة العمالة أسهمت في الحد من البطالة وإعادة تأهيل وتدعيم البنية الأساسية للاقتصاد، بما يتماشى مع جذب الاستثمارات الأجنبية والمحلية. لذلك تنوعت تلك المشروعات في جميع المجالات والقطاعات والمناطق وكان أبرزها: المشروع القومي لزراعة مليون ونصف فدان، ومشروع مستقبل مصر للإنتاج الزراعي، ومشروع الدلتا الجديدة، ومشروعات المدن الجديدة كـ"العلمين، المنصورة الجديدة، أسوان الجديدة، أسيوط الجديدة، والعاصمة الإدارية الجديدة". ومشروعات الإسكان والطرق والكباري، وتطوير القاهرة التاريخية، وتحويل مصر لمركز إقليمي، وغيرها من المشروعات الرائدة. لذلك ناقش المحور الثالث من المؤتمر الاقتصادي خارطة الطريق للقطاعات ذات الأولوية بالاقتصاد القومي.
4. تعزيز القدرة التنافسية التصديرية للاقتصاد: يشكل تعزيز القدرات التنافسية التصديرية للاقتصاد المصري أحد المدركات الحاكمة لطبيعة التوجهات الاقتصادية في الجمهورية الجديدة، لا سيما أن الاقتصاد المصري يمتلك مزايا تنافسية متنوعة، فضلًا عن وجود فرص متاحة للصادرات المصرية في الأسواق العربية والإفريقية والدولية. وربما يعكس تقرير مؤسسة "ستاندرد أند بورز" الذي صدر أخيرًا الإبقاء على التصنيف الائتماني لمصر بالعملتين المحلية والأجنبية كما هو دون تعديل عند مستوى "B" مع الإبقاء على النظرة المستقبلية المستقرة للاقتصاد المصري (Stable Outlook)، للمرة الثانية خلال عام 2022، بحسب البيان الصادر من وزارة المالية المصرية، في 22 أكتوبر2022.
كما يشير التقرير إلى تحسن ملحوظ في مؤشرات الميزان الجاري للعام المالي 2021-2022، حيث حققت حصيلة الصادرات غير البترولية ارتفاعًا ملحوظًا يقدر بـ29 في المئة سنويًا، في ضوء زيادة الصادرات من الأسمدة والأدوية والملابس الجاهزة. كما تم تسجيل فائض كبير على جانب الميزان البترولي 4.4 مليار دولار، على ضوء التوسع في صادرات الغاز الطبيعي. تأسيسًا على تلك التوجهات جاءت العديد من جلسات المحور الثاني لتناقش قضايا تعزيز التصدير في مجالات متعدد مثل الزراعة، والصادرات عالية التقنية، بهدف قيادة تطوير قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات ليصبح القاطرة للنمو الاقتصادي والتنمية المستدامة، كما تمت مناقشة سُبل معالجة أزمة الفجوة التمويلية وحل مشكلات المستوردين من خلال تكاتف جهود جميع الجهات المعنية، لتخفيض حجم الواردات وزيادة الصادرات.
5. تعزيز البُعد الاجتماعي للتنمية: تتبنى الدولة المصرية رؤية استراتيجية واضحة المعالم للعدالة الاجتماعية تقوم ركيزتها الأساسية على توفير سبل العيش الكريم لكل المواطنين، وتتضح هذه الرؤية في إطلاق البرامج والمبادرات الرامية لتعزيز البعد الاجتماعي للتنمية، وتتجلى بوضوح في برنامجي تكافل وكرامة، والمشروع القومي لتطوير الريف المصري "حياة كريمة"، فضلًا عن التركيز على أولويات الرعاية الصحية باعتبارها حقًا رئيسًا من خلال تبني العديد من المبادرات الصحية مثل: التأمين الصحي الشامل، والقضاء على فيروس سي، والكشف عن الأمراض غير السارية، ودعم صحة المرأة المصرية، و100 مليون صحة، وإنهاء قوائم الانتظار. وبلا شك فإن مخرجات المؤتمر الاقتصادي تطرقت لهذا البُعد الاجتماعي بما يعزز من التماسك الاجتماعي ويدعّم ركائز الاستقرار في الجمهورية الجديدة.
مجمل القول إن أجندة المؤتمر الاقتصادي وما طرحته من قضايا ومناقشات بين المسئولين وصنّاع القرار الاقتصادي والخبراء من ممثلي المؤسسات الحكومية والمؤسسات الدولية الاقتصادية والقطاع الخاص، أسهمت في وضع برامج وأولويات محددة يمكن ترجمتها على أرض الواقع لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية، وبما يعزز من تحفيز القدرات الكامنة في الاقتصاد المصري للانطلاق نحو الجمهورية الجديدة.