مع خروج الدفعة الأخيرة من الجنود الفرنسيين في النيجر، طُويت صفحة الوجود الفرنسي من الساحل الإفريقي، بعد وجود عسكري امتد 10 أعوام، كان الغرض منه مكافحة المجاهدين، حيث كانت نيامي عاصمة النيجر آخر حلفاء إفريقيا لباريس، إثر الانسحاب الفرنسي من مالي وبوركينا فاسو.
وازداد الوضع سوءًا، مع انتشار المشاعر المُعادية والاحتجاجات العنيفة ضد وجود فرنسا في مناطق إفريقية، في الوقت الذي تتهم فيه باريس دولًا أخرى بتغذية تلك المشاعر المتنامية في القارة السمراء ضدها، وبات يُواجه النفوذ الفرنسي معضلةً كبرى بعد سلسلة الانقلابات الإفريقية في بوركينا فاسو وغينيا ومالي وتشاد، وكلها كانت مستعمرات فرنسية سابقة.
يعود التواجد الفرنسي في إفريقيا إلى 2013، حينما نشرت فرنسا ما يزيد على 5 آلاف جندي في إطار عملية "برخان"، بالتعاون مع القوات المسلحة في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وانضمت إليها قوات خاصة أوروبية، ونالت دعمًا استخباراتيًا لوجستيًا من الولايات المتحدة الأمريكية انطلاقًا من قاعدة أمريكية في نيامي.
دول الساحل G5
تُعد علاقة الاتحاد الأوروبي مع منطقة الساحل، وعلى وجه الخصوص مع دول "الساحل G5" وهي "بوركينا فاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر"، ذات أهمية استراتيجية للاتحاد الأوروبي من حيث الأمن والاستقرار، حيث إنَّ الاتحاد الأوروبي يدعم منطقة الساحل في كفاحها ضد الإرهاب والجريمة المنظمة، خصوصًا في عملية "برخان" التي جرت لمكافحة التمرد في منطقة الساحل الإفريقي، وبدأت في 1 أغسطس 2014، وتألفت من 3000 إلى 4500 جندي فرنسي وجرى تشكيل العملية مع 5 بلدان.
وفي هذا السياق، ألقت "القاهرة الإخبارية" الضوء على الوجود الفرنسي والأوروبي في إقليم الساحل الإفريقي، واتفق محللون وخبراء تحدثوا لـبرنامج "مطروح للنقاش"، على أنَّ العد التنازلي في العلاقات "الفرنسية - الإفريقية" قد بدأ، مرجعين ذلك لأسباب مُتعددة.
بداية استعادة الأمن والاستقرار
وفي حديثه لـ"القاهرة الإخبارية"، الأحد، يرى الكاتب والباحث السياسي المُتخصص في الشأن الإفريقي، الدكتور علي يعقوب، أنَّ الأمن والاستقرار عاد إلى النيجر فور خروج القوات الفرنسية من نيامي، خصوصًا أنَّ آلاف المواطنين خرجوا في مظاهرات تؤيد العسكريين، فضلًا عن تراجع وتيرة الهجمات الإرهابية بفضل الحملات الأمنية التي يقودها الجيش ضد التنظيمات المسلحة، وظهر ذلك عندما استعاد السيطرة على مدينة "كيدال" عاصمة المتمردين في مالي.
وكنتيجة طبيعية للتراجع الفرنسي بمنطقة الساحل الإفريقي، أضحت هذه المنطقة مسرحًا حيويًا تستغله الصين وروسيا، إلّا أنَّ "يعقوب" علّق على ذلك قائلًا: "إنَّ العلاقات بين النيجر وروسيا ليست قوية، وكل ما تريده نيامي من موسكو هو الحصول على الأسلحة الروسية، خصوصًا بعد الأسلحة القديمة التي استلمتها من فرنسا".
وحول العلاقات الصينية مع النيجر، اعتبرها المحلل السياسي بأنّ بكين شريكة نيامي منذ الثمانينيات ولها دور كبير في التنمية، والسياسة الخارجية الصينية لا تتدخل في الشؤون الخارجية للدول الإفريقية، وإنما دولة تقف بجوار الدول التي تحتاج للمساعدات.
الترحيب بالدورين الصيني والروسي
وبقراءة للتطورات التي تشهدها منطقة غرب إفريقيا، في ظل ظهور فاعلين دوليين جدد على القارة السمراء، فإن حظوظ فرنسا تواجه تهديدًا، وهذا ما وصفه المحلل السياسي، بشير عبدالفتاح، بأنَّ الساحة الجيوسياسية في غرب إفريقيا أصبحت مفتوحة على أكثر من سيناريو بعد الانسحاب الفرنسي من هذه المنطقة.
وتريد دول هذا الإقليم أن تكون لها سياسات مُستقلة، سواءً على صعيد إدارة الشؤون الداخلية أو السياسة الخارجية، وتريد أن تكون قد طوّت مرحلة الاستعمار بشقيه الكلاسيكي والجديد.
هذه التطلعات لدول الإقليم تصطدم بتطلعات دول كبرى لملء الفراغ الاستراتيجي الناجم عن الانسحاب الفرنسي، والبحث عن موطئ قدم، مثل أمريكا وحلفائها، التي تريد سد الطريق على دول أخرى، مثل روسيا والصين وتركيا وإيران، والتي تريد أن تستفيد أيضًا.
المحلل السياسي المصري أضاف، أن دول غرب إفريقيا ترحب بالدورين الروسي والصيني، لما لها من تجربة مؤلمة مع الغرب، سواءً من جهة الاستعمار أو من جهة عدم تحقيق هذه الدول أي مصالح؛ بسبب وجود الاستعمار الغربي، لا سيما بعد إسقاط روسيا أكثر من 20 مليار دولار ديونًا عن هذه الدول.
ثروات الساحل الإفريقي
السنوات الأخيرة خسرت فرنسا مصالحها التاريخية في 4 دول إفريقية، وينظر المحلل السياسي عبدالغني العيادي، في حديثه لـ "القاهرة الإخبارية"، أنَّ دول الساحل الإفريقي تمثل بالنسبة لباريس وأوروبا منطقة استراتيجية أمنية، واقتصاديًا الغرب مهتم بالثروات التي تزخر بها هذه المنطقة.
ووفقًا للمحلل السياسي، فإن فرنسا أُجبرت على الخروج من دول الساحل الإفريقي وهي لا تبحث عن القطيعة بل هي التي دعت إلى حماية المنطقة، كما اعتمدت على جهودها الذاتية في إنجاح العلاقة مع دول الساحل الإفريقي.
فيما، يرى سمير أيوب، المُتخصص في الشأن الروسي، أنَّ فرنسا أخطأت في سياساتها تجاه دول الساحل الإفريقي، ولم تكن بالمستوى الذي يمكن أن يأتي بالأمن والاستقرار الاقتصادي لهذه الدول.
وأوضح أن فرنسا حين تعاملت مع هذه الدول لم يكن على المستوى الشعبي، بل عبر الشركات الفرنسية العاملة هناك ودفع رشاوى لمسؤولين، وتجاهل مصالح الشعوب.