الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

انعكاسات الاستقطاب العالمي على مستقبل "آسيان"

  • مشاركة :
post-title
قادة رابطة جنوب شرق آسيا في قمة جاكرتا

القاهرة الإخبارية - ضياء نوح

رغم عدم مشاركته في قمتي جنوب شرق آسيا "آسيان"، وشرق آسيا، توجه الرئيس الأمريكي، جو بايدن، يوم الأحد 10 سبتمبر 2023، إلى هانوي لتوقيع اتفاق شراكة استراتيجية بين الولايات المتحدة وفيتنام، في إطار استقطاب دول رابطة آسيان لمواجهة النفوذ الصيني، وربط فيتنام بسلاسل القيمة التكنولوجية العالمية باعتمادها أحد مراكز إنتاج أشباه الموصّلات.

وسط توترات عالمية واتساع حدة الاستقطاب العالمي لأعضاء المنظمة، تُكافح رابطة جنوب شرق آسيا لضمان بقائها كصمامٍ رئيسي للأمن الآسيوي ومنطقة المحيطين التي تقع دول الرابطة في القلب منها على ضوء أعمال قمة الرابطة، بالتوازي مع قمة شرق آسيا مع شركاء المجموعة والتي تضم القوى الكبرى المتصارعة مثل الصين وروسيا والولايات المتحدة والهند واليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية، إلى جانب نيوزيلندا.

وناقشت قمم آسيان في الفترة من 4 إلى 7 سبتمبر 2023، الاضطرابات السياسية في بعض الدول الأعضاء مثل ميانمار، وسُبل إبقاء منطقة بحر الصين الجنوبي بعيدًا عن الاستقطاب العالمي وحلحلة النزاع الإقليمي بين الصين وبعض الدول الأعضاء، في إطار توازن علاقات الرابطة مع جميع الشركاء الدوليين في إطار منتدى شرق آسيا.

ويبرز الاهتمام برابطة جنوب شرق آسيا في ظل مكانة التجمع كأحد أبرز التكتلات الإقليمية الساعية لتجنب توسيع رقعة الصراع في آسيا، والحفاظ على مصالحها الجماعية رغم اتساع الحضور العسكري الأمريكي في المنطقة، حيث تشكل آسيان مجتمعة رابع أكبر اقتصاد في العالم بواقع 3,6 تريليون دولار في 2022، (و3,9 تريليون دولار، حسب بيانات صندوق النقد الدولي) بعد الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي، والأهم في قمة إندونيسيا 2023 انعقادها في القوة الأبرز في المنطقة التي تستحوذ على ثلث حجم اقتصاد الرابطة، وتعبر عن موقف القوى المتوسطة في النظام الدولي.

وتأسيسًا على ما سبق؛ يتناول التحليل التالي مصير رابطة آسيان في تحديات البيئة الأمنية بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ "الإندوباسيفيك" في سياق التجاذبات العالمية وانعكاساتها على مستقبل الرابطة.

مشهد مُعقد

سيطرت التفاعلات الخشنة وسياسات التحوط تجاه القوى الكبرى بتصاعد التنافس الاستراتيجي الأمريكي الصيني واندلاع الحرب الروسية الأوكرانية؛ مما دفع العديد من القوى المتوسطة وعلى رأسها إندونيسيا لانتهاج سياسة براجماتية تقوم على تعددية الخيارات والمحاور، بدلًا من الانخراط في صراع ضد أي من الأطراف الدولية الفاعلة.

ولم يتوقف التحول على طبيعة البيئة الأمنية بالمجال الأوروبي فقط، إذ امتدت سياسة التحالفات الأمنية لتغطي منطقة المحيطين الهندي والهادئ على خلفية التنافس الأمريكي الصيني، وهو ما زاد من التحديات المحيطة بدول رابطة جنوب شرق آسيا، ويمكن استعراض تلك التحديات على النحو التالي:

(*) تحديات المنظمة: لا تزال الأزمة في ميانمار تحديًا رئيسيًا أمام رابطة آسيا، في ظل رفض السلطة الانتقالية خطة السلام التي طرحتها آسيان لمعالجة الأزمة السياسية في البلاد منذ الإطاحة بـ"أونج سان سو" في 2021 والتي تتضمن الإفراج عنها لمنع تدهور حالتها الصحية، وهو ما تفرضه السلطة الحالية التي تدعو المنظمة للالتزام بمبادئها في عدم التدخل.

كما تشهد الدعوة التي أطلقتها قمة كمبوديا في نوفمبر 2022، لانضمام تيمور الشرقية لعضوية رابطة جنوب شرق آسيا بعض العراقيل؛ نتيجة الخلافات المستجدة بينها وبين سلطات ميانمار، حيث طردت الأخيرة القائم بأعمال سفير تيمور الشرقية في "نايبيداو" مطلع سبتمبر لاتهامها "ديلي" بدعم المعارضة في ميانمار على خلفية لقاء رئيس تيمور الشرقية خوسيه راموس بأحد قادة المعارضة، مما يعني أن البت في عضوية ديلي لآسيان يتوقف على معالجة قضية ميانمار بالأساس.

(*) النزاع في بحر الصين الجنوبي: تنطوي علاقات دول آسيان مع الصين على تعقيد متزايد في ظل بلوغ حجم التبادل التجاري بين دول المنظمة والصين 975 مليار دولار، إلا أن التوترات المتصاعدة بين بكين ومانيلا عززت من بصمة الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، عبر توسيع حق الوصول الأمريكي للقواعد الفلبينية إلى 9 قواعد تنتشر في أنحاء البلاد. وتمثل التوافقات الأمنية الثنائية مع دولة خارج نطاق بحر الصين الجنوبي خصمًا من نفوذ المنظمة الساعية لتعميق التكامل بين دولها، إلا أنها لا تملك قوة رادعة تواجه نفوذ الصين ويقتصر دورها على رعاية حوار مشترك مع بكين حول مسودة قواعد سلوك (غير ملزمة) في البحر.

(*) الاستقطاب العالمي: شكلت البيئة الأمنية الأوسع لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ التهديد الأبرز لأمن دول رابطة آسيان، والعائق الأكبر لتحقيق هدفها بأن تكون "مركز النمو العالمي" وفق شعار القمة الثالثة والأربعين للرابطة، في سياق ما يحمله الموقع الاستراتيجي للمنطقة وانعكاساته على خريطة الصراع الأمريكي الصيني؛ حيث تمثل منطقة بحر الصين الجنوبي مقياس وحدة منطقة الإندوباسيفيك في ظل "مركزية رابطة آسيان" في النظام الأمني الآسيوي قيد التشكل، حيث يمر عبر البحر نحو 5 تريليونات دولار من التجارة الدولية، ويعد البحر معبرًا حيويًا لنحو 80% من النفط الخام إلى كل من اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، كما تشعل احتياطياته غير المكتشفة من النفط والغاز (11 مليون برميل نفط، و190 مليار قدم مكعب غاز طبيعي) نزاعًا إقليميًا على السيادة البحرية، أججه خط النقاط التسع الصيني الذي يستحوذ على أكثر من 90% من مساحة البحر، في ظل توقعات بنمو نسبة واردات الصين من النفط عبر بحر الصين الجنوبي إلى 80%، ونحو 62% من الغاز المسال بحلول 2030.

وتشترك دول الرابطة بعلاقات وثيقة مع أطراف الصراع الدولي الراهن، في إطار منتدى شرق آسيا الذي يضم إلى جانب دول آسيا كلًا من الولايات المتحدة والصين وروسيا والهند واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا، فمن إجمالي حجم تجارة آسيان البالغ نحو 3,8 تريليون دولار، تستحوذ دول شرق آسيا (من خارج الرابطة) على قرابة 1,9 تريليون دولار، فيما يبلغ حجم التجارة البينية في منظمة آسيان 900 مليار دولار، بينما تقدر تجارتها مع باقي دول العالم بأكثر من تريليون دولار.

مستقبل آسيان في الصراع العالمي

يُمثل خضوع آسيان للتجاذبات الدولية أكثر السيناريوهات ترجيحًا حول مستقبل دور المنظمة في هيكل الأمن الإقليمي، حيث يمثل النموذج التعاوني وسياق صنع القرار بالإجماع بين مجموعة دول تربطها بالصين تحديدًا علاقات متشابكة على صعيدي الأمن والتجارة، ما يساهم في إضعاف المنظمة لصالح استفادة بعض أعضائها من الإغراءات التكنولوجية والأمنية من قبل أطراف معادلة التنافس الاستراتيجي، وهو ما يمكن إيضاحه على النحو التالي:

(&) تجزئة المصالح: تُشير الضغوط المتزايدة على بيئة الأمن الإقليمي وتصاعد المخاوف بشأن الصين إلى نموذج من تجزئة المصالح بين الدول الفاعلة، في إطار آسيان من جهة وكل من الولايات المتحدة والصين من جهة أخرى، وهو ما يظهر في شعار القمة الثالثة والأربعين للرابطة في جاكرتا، والتي اختصرها شعار قمة جاكرتا في اعتبار الرابطة "مركزًا للنمو العالمي"، حيث يتشاطر الشركاء الدوليون التعاون مع الدول الأعضاء في إطار منتديات الحوار الإقليمي وسياقات التعاون الثنائي ومتعدد الأطراف؛ للحفاظ على مصالح آسيان دون الدفع بتشكيل تكتل عسكري قد يشعل انقسامًا داخليًا بين دول المنظمة، خاصة في وجود دول حليفة للصين مثل كمبوديا ولاوس.

وفي مواجهة النفوذ الصيني الكبير بالمنطقة بالنظر لحجم التبادل التجاري بين بكين ومجمل دول آسيا البالغ 975 مليار دولار، تتجه بعض دول المنطقة للاستفادة من الغطاء الأمني الأمريكي من خلال لتوقيع اتفاقات تسليح وتحديث عسكري كبرى، مثل إندونيسيا التي تعمل بالتعاون مع الولايات المتحدة على تحديث جيشها، وفقًا لمحادثات وزيري الدفاع في الولايات المتحدة في سبتمبر الجاري، وذلك دون أن تتخذ جاكرتا موقفًا منحازًا تجاه واشنطن أو موسكو في الأزمة الروسية الأوكرانية.

كما اتخذت دول مثل الفلبين مسارًا أوسع من التعاون العسكري؛ ليشمل السماح بانتشار القوات الأمريكية في 9 قواعد عسكرية استغلالًا لموقعها الاستراتيجي جنوب غربي جزيرة تايوان، مما يجعلها موقعًا مهمًا على طريق الدفاع عن تايوان، عبر تقديم الدعم اللوجيستي أو نقطة انطلاق لعمليات دفاع محتملة عن الجزيرة في حال نشوب حرب مع الصين.

وفي المقابل تتجه فيتنام لأن تكون الشريك التكنولوجي الأبرز للولايات المتحدة، على خلفية إعلان الارتقاء بالعلاقات إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية وتوجيه الاستثمارات الأمريكية إلى هانوي في مجال صناعة الرقائق الإلكترونية، في الوقت الذي كشفت فيه صحيفة نيويورك الأمريكية في 9 سبتمبر 2023، عن وثيقة صادرة عن وزارة المالية الفيتنامية في مارس الماضي، تظهر مساعي هانوي لشراء أسلحة روسية بالمقايضة، عبر الاستثمار في مشروع نفطي مشترك بسيبيريا بإجمالي 8 مليارات دولار خلال 20 عامًا.

(&) توسيع أطر التعاون: يؤدي الاستقطاب المتزايد لدول آسيان في مشاريع للتعاون الإقليمي، تشمل تعاونًا أمنيًا وعسكريًا، إلى إضعاف دور الرابطة في الهيكل الأمني لمنطقة المحيطين، وتحولها إلى منتدى حواري تتشاطر فيه القوى المتصارعة رؤاها في معالجة الأزمات العالمية، وعلى رأسها الحرب الروسية الأوكرانية. وعلى الرغم من التحديات التي يطرحها الظرف الجيوسياسي المحيط بالمنطقة، إلا أنه يُعزز من فرص توسيع التعاون الاقتصادي والسياسي في منطقة واعدة تضم مجموعة من الاقتصادات الناشئة الأعلى نموًا، في ظل الاتجاه الكبير نحو آسيا من مختلف القوى الاقتصادية الفاعلة والانضمام إلى معاهدة الصداقة والتعاون في جنوب شرق آسيا "آسيان" والتي تضم نحو 54 دولة حول العالم، كان آخرها توقيع كل من صربيا والكويت وبنما على المعاهدة في 4 سبتمبر الجاري على هامش انعقاد قمة رابطة "آسيان".

وإجمالًا؛ فيما تتزايد المخاوف الأمنية جراء النزاع البحري مع الصين واعتبار مسودة قواعد السلوك ببحر الصين الجنوبي آلية صينية لاحتواء جيرانها، تتخذ دول آسيان اتجاهًا تحوطيًا يدعم خلق بيئة آمنة تمتزج فيها مصالح القوى الكبرى المتنافسة بما يخدم دول الرابطة، وهو ما يكشف عن هشاشة المنظمة الإقليمية وافتقادها لهيكل أمني مستقل يدعم وحدتها وتأمين مصالح الدول الأعضاء، بعيدًا عن التنافس الاستراتيجي الأمريكي الصيني والذي يؤدي في النهاية إلى مصالح متعاظمة لبعض دول الرابطة، طالما نجحت في الحفاظ على حيادها العام ونأت بنفسها عن أي صراع مُحتمل حول تايوان.