تحل على الصين الذكرى العاشرة لإطلاق "مبادرة الحزام والطريق" في الـ 7 من شهر سبتمبر المقبل، والتي تمثل أكبر مشروع بنية تحتية في تاريخ البشرية تم إطلاقه عام 2023. فعبر هذه المبـادرة تستعيد الصين الذكريـات التاريخيـة لطريـق الحريـر، والـذي كان حلقـة الوصـل فـي التواصـل والتجـارة والتفاعـل بيـن الحضـارات، أمـا الصيغـة المعاصـرة مـن هـذا الطريـق، فهـي مبـادرة "الحـزام والطريـق" التي يعتبر هدفها الرئيسي، هـو تعزيـز السياسـات الاقتصاديـة والخارجيـة للصيـن.
ترجـع جـذور مبـادرة "الحزام والطريق" إلـى النجـاح الاقتصـادي الـذي تتمتـع بـه الصيـن مـن جـراء الاعتماد علـى تطويـر منشـآت البنيـة التحتيـة، حيث تسـعى المبـادرة إلـى محـاكاة هـذه الاستراتيجية الاقتصادية خـارج حـدود الصيـن، وتهـدف الصيـن مـن خلالها، إلى محاولـة إنشـاء مســارات تجاريــة بريــة وبحريــة تربــط بيــنها وأوروبــا عبــر المــرور فــي آســيا بمــا فــي ذلــك منطقــة الشــرق الأوسط، وأفريقيـا، إلـى المسـاعدة فـي رفـع معدلات نموهـا، لاسيما فـي وسـط وغـرب الصيـن، وكذلـك رفـع معدلات النمـو فـي البلـدان الأخرى.
تأسيسا على ما سبق، يطرح هذا التحليل عدة تساؤلات، هي: ما هي نتائج تقييم مبادرة "الحزام والطريق"؟ وما هي أهم آثارها على التنمية العالمية؟ وما هي اتجاها استثمارات مشروعاتها؟ من هم الفائزون والخاسرون من هذه المبادرة؟ وهل تعزز هذه المبادرة فرص سيطرة الصين على الاقتصاد العالمي؟ وما مدى استفادة الدول العربية من هذه المبادرة؟ وما المستقبل المنتظر لهذه المبادرة في السنوات القادمة؟
إنجازات "الحزام والطريق":
على مدى السنوات العشر الماضية، حقق البناء المشترك عبر مبادرة "الحزام والطريق" إنجازات هامة، وأصبح أكبر منصة تعاون دولي في العالم في الوقت الحالي، حيث تشير البيانات إلى أن استراتيجية مبادرة الحزام والطريق ناجحة جدًا حتى الآن، ففي عام 2021، على سبيل المثال، وقعت الصين 140 مذكرة تفاهم مع دول العالم و32 مذكرة مع منظمات دولية، كان نصيب أفريقيا منهم 46، وآسيا 37، وأوروبا 27، وأمريكا الشمالية 11، ومنطقة المحيط الهادئ 11، وأمريكا اللاتينية 8 مذكرات تفاهم. في حين بلغت استثمارات الصين الخارجية المباشرة 82 مليار دولار أمريكي عام 2012، ووصلت إلى 154 مليار دولار أمريكي عام 2020، أي الضعف تقريبًا، محتلة بذلك المرتبة الأولى عالميًا في الاستثمار الخارجي. وكذلك زادت الاستثمارات الصينية في بلدان مبادرة الحزام والطريق بصورة واضحة.
انعكاسات تنموية:
وفقا لتقرير بحثي صادر عن البنك الدولي، فإن الدول المشاركة في عملية البناء المشتركة للحزام والطريق زادت تجارتها بنسبة تتراوح بين 2.8٪ إلى 9.7٪، وزادت نسبة التجارة العالمية بـ 1.7٪ إلى 6.2٪ وارتفع الدخل العالمي بنسبة بين 0.7٪ و2.9٪. وإذا تم تنفيذ جميع مشاريع البنية التحتية المرتبطة بالمواصلات في إطار مبادرة "الحزام والطريق" فإنه بحلول عام 2030 يمكن لهذه المشاريع أن تدرّ 1.6 تريليون دولار أمريكي من العائدات للعالم كل عام، وهو ما يمثل 1.3٪ من الاقتصاد العالمي، حيث يتم تقاسم 90٪ من الفوائد من قبل البلدان المشاركة في عملية البناء، كما أن البلدان ذات الدخل المنخفض والبلدان ذات الدخل المتوسط، هي الأكثر استفادة من هذه المشاريع. وهكذا تظهر الحقائق بأن البناء المشترك للحزام والطريق هو طريق الفرص المؤدية إلى الازدهار المشترك.
وفيما يتعلق باتجاهات استثمارات مشروعات الحزام والطريق، يمكن التأكيد على أن حجم استثمارات مشروعات مبادرة "الحزام والطريق" تجاوزت نحو تريليون دولار أمريكي (1.016 تريليون دولار أمريكي) مقسمة ما بين 596 مليار دولار أمريكي في عقود البناء، و420 مليار دولارًا أمريكيًا في الاستثمارات غير المالية، وتزداد مشروعات استثمارات مبادرة الحزام والطريق في النصف الأول من عام 2023 بحوالي 103 مشروع تقريبًا، بقيمة 43.3 مليار دولار أمريكي مقارنة بنحو 35 مليار دولار أمريكي في النصف الأول من عام 2022.
فلسفة مكافحة الفقر:
تهدف مبادرة "الحزام والطريق" الصينية إلى تمكين الناس في جميع البلدان من عيش حياة أفضل. فكما أشار الرئيس الصيني شي جين بينج في حفل افتتاح الدورة الثانية لمنتدى الحزام والطريق للتعاون الدولي، حين قال إنه "يجب أن نلتزم بفلسفة التنمية التي تضع في القلب منها مصلحة الناس، والتركيز على القضاء على الفقر وزيادة فرص العمل وتحسين معيشة الناس، حتى تعود نتائج البناء المشترك للحزام والطريق بفوائد كبيرة على جميع الناس وبشكل أفضل، وتقدم مساهمات ملموسة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية المحلية، وفي نفس الوقت تضمن الاستدامة التجارية والمالية".
وعليه، يمكن القول إن البناء المشترك للحزام والطريق، قد يؤدي إلى تحسين رفاهية الناس في البلدان الواقعة على طول الحزام والطريق، فعلى مدى السنوات العشر الماضية، مكّنت مشاريع "الحزام والطريق" المرتبطة بمعيشية السكان المزيد من الناس في البلدان الواقعة على طول الحزام والطريق من شرب المياه النظيفة، واستخدام الكهرباء الآمنة والعثور على وظائف مستقرة والعيش حياة سعيدة. وطالما تبذل جميع الأطراف جهودًا متواصلة، فإن البناء المشترك للحزام والطريق يمكن أن ينتشل المزيد من الناس من الفقر ويجعل التنمية العالمية أكثر توازناً، وبالتالي تحقيق حياة كريمة لهم.
كما أن البناء المشترك للحزام والطريق، من المرجح أن يؤدي إلى زيادة حيوية تنمية الدول الواقعة على طول الحزام والطريق، فعلى مدى السنوات العشر الماضية، انخفضت تكاليف المعاملات الخاصة بالسلع ورأس المال والمعلومات والتكنولوجيا في البلدان الواقعة على طول الحزام والطريق بشكل كبير، مما عزز بشكل فعال التدفق المنظم والتخصيص الأمثل لعناصر الموارد الإقليمية وساعد بعض "المناطق المنسية" من الاندماج بشكل أفضل في سلسلة الصناعات العالمية وسلسلة التوريد وسلسلة القيمة، وتحقيق تنمية مربحة لكافة الأطراف. فعندما تم افتتاح جسر الصداقة بين الصين وجزر المالديف، قال السكان المحليون والسعادة تغمر وجوههم "بأن هذا الجسر منحنا فرصة للتحرك نحو مستقبل أفضل"، أما في يوم افتتاح جسر بيليساك في كرواتيا رسميًا أمام حركة المرور، فقد قال رئيس الوزراء الكرواتي بلينكوفيتش "هذا يوم تاريخي في كرواتيا! فتح هذا الجسر أمام حركة المرور حقق حلم أجيال متعددة" وبلغ عدد خطوط السكك الحديدية التي تربط الصين بأوروبا 82 خطًا، حيث تصل القطارات الصينية إلى 200 مدينة في 24 دولة أوروبية، وهكذا فتحت قناة مباشرة وسلسلة للخدمات اللوجستية بين آسيا وأوروبا.
مكاسب محتملة:
يرى الخبراء أن الصين لن تسيطر على العالم عبر مبادرة "الحزام والطريق"، فهناك رأس المال الأمريكي والمؤسسات المتعددة الأطراف والمستثمرون الأوروبيون، وتلك الجهات الفاعلة أكثر قوة وأرسخ مكانة وأوسع علاقات على المستوى العالمي من نظيرتها الصينية. ويبرهن على هذا أن القروض والاستثمارات الغربية ما زالت مفضلة على مثيلتها الصينية، سواء أكان ذلك لدى البلدان الأوروبية أم الأفريقية أم الآسيوية. ليس هذا وحسب، فالولايات المتحدة وحلفاؤها، مثل: الاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية، يمتلكون قوةً تكنولوجية واقتصادات متطورة وبنية أساسية مستدامة. وبذلك، فهم يقدمون سويًا ميزة تنافسية تتفوق على مبادرة الحزام والطريق الصينية، ودليلًا واضحًا على أن ما يشاع عن نفوذ الصين الاقتصادي مبالغٌ فيه.
كذلك فإن النظام الاقتصادي الذي تقوده الولايات المتحدة يضرب بجذوره العميقة حول العالم، على العكس من النظام الصيني الثقافي والاجتماعي والاقتصادي الذي يصعُب استيعابه أو التحول إليه في مكان آخر.
وبالتالي، من المحتمل أن يكون هناك فائزون وخاسرون من مبادرة "الحزام والطريق"، فعلى الرغم من الرقابة المفروضة على النقد في الصين، يبدو أن مبادرة الحزام والطريق ليست محل إجماع. فثمة قطاعات في المجتمع ينتابها القلق من أن تكون المبادرة سببًا في تصاعد المنافسة الصينية الأمريكية، أو سببًا في إهدار الاستثمارات المخصصة لها. من جهة أخرى فقد أفادت المبادرةُ المجموعاتِ السياسية والاقتصادية الأساسية في الصين، مثل: الحكومات المحلية، والشركات التي تتوسع عالميًا باستخدام التمويل الحكومي، والهيئات الحكومية المستفيدة من منصات المبادرة، والمجتمعات البحثية المعنية باستكشاف العالم وفهمه.
أما خارج الصين، فقد استفادت البلدان الواقعة ضمن نطاق مبادرة الحزام والطريق بمقادير مختلفة؛ فقد استضافت استثمارات وحصلت على قروض وأقيمت فيها مشروعات بنية أساسية بقيم كبيرة إلى حد ما. حتى عند فشل بعض المشروعات أو تعليقها، فقد تعلمت تلك البلدان دروسًا مهمة واكتسبت خبرات قيمة في مجال تطوير البنية الأساسية ومشاركة رأس المال الصيني.
وعلى المستوى العربي، يمكن القول إن هناك دول عربية من الممكن أن تستفيد من مبادرة الحزام والطريق، وهو الأمر الذي يجسده الحضور العربي في قمة مبادرة "الحزام والطريق" في العاصمة الصينية، بكين في أبريل عام 2019 ممثلا في حضور كل من فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي، والشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الإمارات رئيس مجلس الوزراء وقتها، فضلا عن رؤساء دول وحكومات وممثلو 37 دولة. ويُفسر هذا الاهتمام العربي، بأن من بين الممرات الاقتصادية الست التي تتضمنها المبادرة، الممــر الاقتصــادي بيــن الصيــن ووســط وغــرب آســيا، فهذا الممر يغطــي طريــق الحريــر القديــم، حيــث يربــط بيــن الصيــن وشــبه الجزيــرة العربيــة. ويبــدأ الممــر مــن شــينجيانج فــي الصيــن ويعبــر وســط آســيا ثــم يصــل إلــى الخليــج والبحــر الأبيض المتوســط وشــبه الجزيـرة العربيـة. ويمـر فـي خمـس دول بوسـط آسـيا، هـي كازاخسـتان، وكيرجيزســتان، وطاجيكســتان، وأوزبكســتان، وتركمانســتان، و17 دولــة ومنطقـة فـي غـرب آسـيا أو الشـرق الأوسط ومنهـا المملكـة العربيـة الســعودية وتركيــا وإيــران.
وما يدعم الاستفادة المستقبلية للدول العربية من مبادرة الحزام والطريق، هو التنسيق الواضح في السياسـات بيـن الصيـن وبعـض الـدول العربية، حيـث تسـعى الصيـن باسـتمرار لتطويــر علاقاتها مع هذه الدول، واســتطاع الجانبــان صياغــة آليــات للحــوار والتواصــل ومنهـا منتـدى التعـاون الصينـي العربـي، والحـوار الاستراتيجي بيـن الصيـن ودول مجلــس التعــاون الخليجــي. وتنـص أول "وثيقـة لسياسـة الصيـن تجـاه الـدول العربيـة"، والتـي صـدرت فـي 2016 علـى أن ـيتم بـذل جهـود مشـتركة مـع الـدول العربيـة لدعـم المبـادرة فـي إطـار مبـدأ "المشـاورات الواسـعة، والمسـاهمات المشـتركة، والمنافــع المتبادلــة"، وتتضمن هذه الوثيقــة أن الصيــن والــدول العربيــة يطبقان نمــط ”1+2+3 فــي التعــاون“ بينهمــا، وتشير (1) إلي التعاون في مجال الطاقة باعتباره الركيزة الأساسية، وتشير(2) إلي الإنشاءات، وتيسير التجارة والاستثمار، بينما تشير (3) إلي التقنيــات المبتكــرة فــي الطاقــة النوويــة، والأقمــار الصناعية الفضائيــة، والطاقــة المتجــددة. وتطبيقًا لذلك دخلـت الصيـن فـي شـراكة استراتيجية مـع ثمانــي دول عربيــة فضلا عن عدد من الاتفاقــات المتعلقة بالإنشاءات اللازمة لمبــادرة "الحــزام والطريـق" مـع سـت دول عربيـة. وتفعيلا لهذه الاتفاقيات، شــاركت الشــركات الصينيــة فـي إنشـاء العديـد مـن الموانـئ في المنطقة العربية ومنهـا مينـاء العيـن السـخنة فـي مصـر، ومينـاء حمـد الجديـد فـي قطـر.
في النهاية، يمكن القول إن مبادرة "الحزام والطريق" تسير بخطى جادة نحو التنفيذ رغم عدم اكتمالها بشكل نهائي، فلم يكتمل تنفيذ كل المشروعات التي تتضمنها هذه المبادرة حتى اليوم، فتاريخ الانتهاء المخطط لها هو عام 2049 والذي سيتزامن مع الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية الصين الشعبية. وقد يتأثر تنفيذ هذه المشروعات بالمخاطر التي تتسم بها في العادة مشروعات البنية التحتية الكبيرة، وهذه المخاطر قد تتفاقم بسبب نقص الشفافية، وضعف العوامل الاقتصادية الأساسية ومستويات الحوكمة في العديد من البلدان المشاركة، ومن أمثلة هذه المخاطر تلك المتعلقة بالقدرة على الاستمرار في تحمل أعباء الدين، حيث سيشهد 12 بلدا من البلدان الثلاثة والأربعين المنخفضة والمتوسطة الدخل المشاركة في تنفيذ تلك المبادرة، تدهور قدرتها على تحمُّل أعباء الدين في الأمد المتوسط.
وفيما يتعلق بمستقبل المبادرة، فإنه في الأجل القريب (خلال الأشهر المتبقية من عام 2023)، من الممكن حدوث مزيد من الانتعاش في مشاركة الحزام والطريق الصينية من خلال ملف تركيز قوي على الشراكات القطرية لمبادرة الحزام والطريق في مجال الطاقة المتجددة والتقنيات ذات الصلة، ويمكن توقع ارتباطات مستقبلية محتملة في ستة أنواع من المشاريع هي: التصنيع في التقنيات الجديدة (مثل البطاريات)، والطاقة المتجددة، والبنية التحتية التمكينية للتجارة (بما في ذلك خطوط الأنابيب والطرق) وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات (مثل مراكز البيانات) والصفقات المدعومة بالموارد (مثل التعدين ، النفط والغاز) ، الرؤية العالية أو المشاريع الاستراتيجية (مثل السكك الحديدية)
وعلى المدى الطويل، من المتوقع أن يتم التركيز في السنوات القادمة علي تنفيذ مشروعاتها المرتبطة بما يُطلق عليه "طريــق الحريــر الرقمـي"، والذي يستهدف دعــم خطــط الابتكار للتجــارة الإلكترونية والاقتصاد الرقمــي والمــدن الذكيــة ومجمعــات العلــوم والتكنولوجيــا، والتي تتوافـق مـع الخطـط التـي تـم الإعلان عنهـا مؤخـراً فـي المملكـة العربيـة السـعودية ودولـة الإمارات العربيـة المتحـدة بشأن مقتــرح ”طريــق الحريــر المعلوماتــي“ لإدراج القطاعــات الرقميـة ومنهـا الاتصالات والبنيـة التحتيـة، وانترنت الأشياء، والتجارة الإلكترونية فـي مبـادرة الحـزام والطريـق.