لا يزال صدى قرار عودة سوريا إلى الجامعة العربية، وحضورها القمة العربية الـ32 المنعقدة بالمملكة العربية السعودية، يتردد في الأوساط الإقليمية والدولية، خاصة أن القرار يأتي بعد غياب دام أكثر من 12 عامًا، وفي ظل تحولات عديدة على الصعيدين الإقليمي والدولي، ومع تصاعد أزمات بلدان المنطقة العربية، ورغبة دول المنطقة لإعادة "لم الشمل العربي" لوضع حلول فاعلة لقضاياه، فضلًا عن انقسام الآراء حول قرار العودة ما بين مرحب ومعارض، ولذلك، فإن إدراك سوريا أن عودتها إلى المحيط العربي سيقابله جملة من الالتزامات بالتعاون مع دول المنطقة استجابة لمتطلبات حل الأزمة السورية وإعادة دمشق إلى ما كانت عليه في السابق، وحل جميع الأزمات التي تواجهها على الأصعدة كافة (الاقتصادية والسياسية والأمنية).
وشدد الرئيس السوري بشار الأسد، في كلمته بالقمة العربية التي انعقدت بجدة في 19 مايو الجاري، على رفضه للتدخلات الخارجية، ودعا إلى ضرورة تعزيز العمل العربي المشترك، ولكن من خلال "أهداف مشتركة ورؤى استراتيجية وسياسة موحدة، لتحقيق الأمن والسلام في المنطقة، وطالب بضرورة مراجعة النظام الداخلي للجامعة العربية لتحقيق هذا الأمر.
ردّ الفعل العربي والغربي
ولمعرفة التحديات الناجمة عن انفتاح سوريا على العالم بعد قمة جدة 2023، سيتم التطرق أولًا إلى إبراز ردود الفعل العربية والغربية حول القرار الصادر عن اجتماع وزراء الخارجية العرب بمقر الجامعة العربية بالقاهرة في 7 مايو 2023، بشأن إعادة شغل سوريا لمقعدها بالجامعة العربية، على النحو التالي:
(*) ترحيب عربي واسع: فور صدور قرار عودة سوريا، خرج عدد من الدول العربية، للترحيب بهذا القرار، من بينها، الجزائر، البحرين، لبنان، الأردن، الإمارات، مصر، السعودية، وتونس، والكويت، وبعض المنظمات العربية، معتبرين أن قرار العودة يعد "خطوة جيدة"، هدفها الأساسي توحيد الصف والكلمة العربية ولملمة الشمل العربي، وتعزيز العمل العربي المشترك بما يسهم في التوصل لتسوية سياسية للأزمة السورية التي دخلت عامها الثاني عشر.
(*) تحفظ عربي مشروط: رغم وجود ترحيب عربي واسع بقرار عودة سوريا إلا إنه في الوقت ذاته، هناك تحفظ من قبل بعض البلدان العربية على قرار العودة، جاءت "قطر" على رأسها، إذ أعلنت في بيان لوزارة خارجيتها عن ثبات موقفها من "رفض التطبيع مع النظام السوري"، مشترطة التوصل لحل سياسي للأزمة وتحقيق تطلعات الشعب السوري، ولكنها في الوقت ذاته، شددت على أنها لن تقف عائقًا أمام الإجماع العربي، كما أن المملكة المغربية كان لديها تحفظ غير مباشر على قرار العودة، مشددة على أن قرار العودة يجب أن يتبعه إطلاق مسار سياسي يسهم في التواصل لحل شامل ودائم للأزمة السورية، وهذا الموقف المغربي يرجع إلى رفض للعلاقة بين سوريا وإيران التي تتهمها المغرب بدعم جماعات إرهابية تهدد المملكة المغربية.
(*) انقسام الموقف الدولي: انقسم المجتمع الدولي بين مؤيد ومعارض لقرار عودة سوريا، إذ جاءت روسيا والصين على رأس الدول المرحبة بقرار العودة معتبرة إياه "خطوة طال انتظارها" وفي المسار الصحيح، وتتناسب مع تطلعات شعوب المنطقة العربية الهادفة لتعزيز الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، وعلى الجانب الآخر، انتقدت بعض الدول الأوروبية قرار العودة، من بينها، بريطانيا وألمانيا وفرنسا، مؤكدين عدم رفع العقوبات الغربية عن سوريا طالما لم تقدم السلطات السورية "تنازلات" لحل الأزمة والتداول السلمي للسلطة، بل وحذروا الدول العربية من أن عدم وضع "شروط ملزمة" لن يسهم في تسوية الأزمة السورية، إضافة لذلك، فإن أمريكا، كانت من أوائل الدول التي انتقدت قرار العودة، معتبرة أن سوريا لا تستحق ذلك، لرؤيتها أن الرئيس الأسد لن يلتزم بأي مطالب لحل الأزمة المشتعلة في بلاده.
تحديات الانفتاح
وفي ضوء المواقف السالف ذكرها، يمكن القول إن هناك جملة من التحديات ستشكل عائقًا أمام انفتاح سوريا على العالم خاصة بعد قمة جدة 2023، ويمكن توضيحها على النحو التالي:
(&) تسوية سياسية داخلية للأزمة السورية: بعد القمة العربية الـ32، سيكون على الرئيس السوري بشار الأسد المضي قدمًا في وضع الخطو ات اللازمة لتسوية الأزمة في بلاده، وذلك من خلال عدة خطوات سبق وأن نص عليها القرار الدولي رقم 2254، من بينها، تعديل الدستور، وإطلاق عملية سياسية تشارك بها مختلف القوى السورية (تجمع الحكومة وقوى المعارضة)، والتمهيد بعد ذلك، لتشكيل حكومة تجمع كل هذه القوى، وهو المطلب الذي سبق ونادت به أمريكا وبعض دول الاتحاد الأوروبي، التي دعت الرئيس السوري إلى تقديم التنازلات تضمن وجود تسوية سياسية للأزمة في بلاده، وأن يدشن مرحلة انتقالية تقودها "حكومة وفاق وطني"، وعليه، فإن رفض النظام السوري لهذا الأمر أو عدم اتخاذ على الأقل خطوات ملموسة للحوار مع المعارضة، سيشكل تحديًا أمام انفتاح سوريا على العالم.
(&) حدوث تغير كامل ولو كان تدريجيًا في توجهات سوريا وفقا لمبدأ "خطوة مقابل خطوة": عانت الدول العربية في الماضي من عدم وجود رؤية واضحة للرئيس السوري في التعامل مع بعض القضايا، وعدم الالتزام بأي مبادرات عربية داعية لحل الأزمة في بلاده، ولذلك فإن "الأسد" عليه خلال الفترة المقبلة التعامل بمرونة ووضوح مع دول المنطقة العربية، وهذا ما أعلنه وزير الخارجية السوري فيصل المقداد خلال لقاء عمّان بالأردن، وفي كلمته في المجلس الوزاري لوزراء الخارجية العرب بقمة جدة، بل والبدء في تنفيذ سياسة "خطوة مقابل خطوة" التي سبق ودعت إليها دول المنطقة، وأوفت الأخيرة وأعادت سوريا إلى الجامعة ولذلك سيبقى على دمشق أيضًا الرد بالمثل وإبداء "حسن النية" بشأن العودة بجدية وفعالية إلى المحيط العربي، بما يسهم في تعزيز التعاون العربي المشترك.
(&) دفع الدول الغربية لرفع العقوبات عن سوريا: من أبرز التحديات التي ستقابلها سوريا بعد قمة جدة، هو استمرار الموقف الغربي الرافض لعودتها للمحيط العربي من الأساس، ومن ثم استمرار العقوبات الاقتصادية الغربية التي تثقل كاهل الدولة السورية وتؤثر بشكل سلبي على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للشعب السوري، ولذلك فإن التزام دمشق بالدعوات العربية المنادية بحل الأوضاع في الداخل السوري بطريقة سياسية، وتأكد الدول العربية من فعالية هذا الالتزام، قد يدفع الأخيرة إلى بذل جهود عديدة لإقناع دول المجتمع الدولي بقبول عودة سوريا إلى المحيط العربي أولًا، والبدء في رفع تدريجي للعقوبات الأمريكية والأوروبية، حتى تتمكن سوريا من السير في خطوات الإصلاح والتنمية.
(&) وضع خارطة طريق لإعادة اللاجئين: سيظل هذا الأمر تحديًا أمام انفتاح سوريا على العالم بعد القمة الـ32، خاصة أن بعض الدول رحبت بعودة سوريا إلى الجامعة، أملًا في أن يسهم هذا القرار، في تسهيل عملية العودة الطوعية للاجئين السوريين إلى بلدهم، فوفقًا لإحصاءات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في مارس 2022، فإن أكثر من 13 مليون سوري اضطروا إما للفرار خارج البلاد وإما النزوح داخل حدودها، ولذلك فإن هذا العدد الكبير نسبيًا يتطلب تهيئة ظروف ومناطق آمنة لضمان حماية الراغبين في العودة وتوفير الأماكن المناسبة لعودتهم، وإصلاح البنية التحتية للبلاد من خل عمليات إعادة الأعمار، وهو ما يتطلب وجود تنسيق على مستوى عالٍ بين الدولة السورية والبلدان المضيفة للاجئين وترغب في إجلائهم.
(&) محاربة الإرهاب وتهريب المخدرات من سوريا إلى الخارج: تتطلع بعض الدول العربية للتعاون مع سوريا لوضع حد لهذا الخطر الداهم الذي يهدد بشكل خاص الدول المجاورة لسوريا ووضع "خطة سورية فعّالة" تسهم في محاربة هذه الجرائم وتتصدى بقوة لأي عمليات لتهريب المخدرات وخاصة "حبوب الكبتاجون" إلى بعض دول المنطقة وخاصة الأردن، السعودية، والعراق، ولذلك كان هذا المطلب على رأس مخرجات اجتماع عمّان التشاوري، وعليه، فإن سوريا حتى تسهل عملية انفتاحها على العالم، ينبغي أن تتخذ خطوات فعالة لمحاربة أية جرائم تهدد أمن واستقرار جميع دول المنطقة، وتكثيف التعاون معها لمحاربة جرائم المخدرات والعصابات العاملة بهذه المجالات داخل الأرضي السورية. إضافة إلى ذلك، فإن "الإرهاب" سيظل تحديًا أمام سوريا، ومن المهم أن تبدأ الأخيرة في اتخاذ الخطوات الفعالة لدحر الإرهاب داخل أراضيها للتمهيد لخروج قوات التحالف الدولي لمحاربة تنظيم "داعش" الإرهابي بقيادة أمريكا من سوريا.
(&) تقليص الدور الإيراني والتركي في الأراضي السورية: ستظل تدخلات بعض القوى الخارجية في سوريا، حائلًا أمام عودة الأخيرة بجدية إلى المحيط العربي وتسوية الأزمة السورية، كما أن استمرار وجود قوات تابعة لكلا البلدين داخل الأرضي السورية سيعيق أي مسار لعملية التحول الديمقراطي التي من المفترض أن تمضي فيها دمشق، وذلك بعد أن نجم عن هذه التدخلات انتهاكًا لأمن وسيادة سوريا، يهدد ليس فقط سوريا بل دول المنطقة. لذلك، فإن على سوريا أن توضح موقفها من وجود هذه القوى الخارجية داخل بلاده، والمضي قدمًا في اتخاذ الخطوات الفعالة لتقليصها ثم إخراجها من كامل الأراضي السورية.
تأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن على سوريا إدراك أن انفتاحها على العالم العربي بعد قمة جدة 2023، سيضع عليها أمرين: أولهما، المضي قدمًا في حل الأزمة السورية وإجراء حوار مع قوى المعارضة لتسوية الأزمة، وثانيهما، تعزيز التعاون مع دول المنطقة العربية والالتزام بمخرجات القمة العربية والاجتماعات العربية التي دعت دمشق في وقت سابق إلى الالتزام بسياسة "خطوة مقابل خطوة"، وتلبية المطالب العربية والدولية خاصة المتعلقة بتأمين الحدود وحل أزمة اللاجئين.