بالقرب من أهرامات الجيزة المصرية، يقف المتحف المصري الكبير شامخًا، لا بوصفه تحفة معمارية عالمية فحسب، بل بوصفه مشروعًا وطنيًا يحمل ملامح تحول شامل في رؤية مصر لتراثها، ويمثل مزيجًا فريدًا بين الاستثمار في الثقافة والاقتصاد، ويجسد رؤية مصر في تحويل التراث إلى مصدر مستدام للقوة الناعمة والتنمية.
ويبرز المتحف المصري الكبير ليس فقط كتحفة معمارية حضارية لعرض القطع الأثرية بل كمشروع وطني ضخم يحمل في طياته آمالًا كبيرة تتعلق بتحقيق نقلة نوعية في منظومة السياحة والاقتصاد والثقافة المصرية، فهو ليس مجرد مبنى للحفاظ على التاريخ، وإنما استثمار مستقبلي في هوية مصر، وحضارتها التي تعد من أقدم الحضارات الإنسانية.
في قلب هذه الرؤية، وفي وقت تتنافس فيه دول العالم على جذب السائحين والثقافات، يفرض المتحف المصري الكبير نفسه كلاعب رئيسي على الخريطة العالمية، ليؤكد أن تراث مصر ليس فقط مصدرًا للفخر والاعتزاز، بل أداة فعالة لتعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
فمن خلال افتتاح هذا الصرح، تنطلق مصر برؤية واضحة تستهدف استثمار إرثها في تعزيز الاقتصاد الوطني، وخلق فرص عمل، وإثراء المشهد الثقافي، مع الحفاظ على أصالة الهوية المصرية.
وبحسب وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية "أ ش أ"، لا يهدف هذا الصرح الحضاري الضخم فقط إلى حفظ وعرض كنوز الحضارة المصرية القديمة، بل يسعى إلى تحقيق عائد ثقافي واقتصادي متكامل، من خلال نشر الوعي بالهوية الوطنية، وتنشيط السياحة، ودعم الصناعات الإبداعية المرتبطة بالتراث.
ويأتي المشروع كرمز للنهضة الحديثة التي تربط بين الماضي المجيد والمستقبل الواعد، حين تتحول الثقافة من مجرد قيمة رمزية إلى رافد تنموي حقيقي يسهم في بناء الإنسان وتعزيز مكانة مصر على خريطة العالم.
ومع اقتراب موعد الافتتاح الكامل للمتحف في الأول من نوفمبر 2025، نستعرض من خلال هذا التقرير، الأرقام والتصريحات الرسمية، التي تكشف الأبعاد الاقتصادية والثقافية للمتحف المصري الكبير.
منارة للثقافة والبحث العلمي
يعد المتحف المصري الكبير منارة للثقافة والتنوير، وأحد أهم أدوات الدولة في ترسيخ الهوية الوطنية ونشر الوعي التاريخي بين الأجيال الجديدة، ومن أبرز أوجه العائد الثقافي للمتحف: تعزيز الهوية والانتماء الوطني، إذ يقدم المتحف رؤية شاملة لتاريخ مصر القديم بأسلوب معاصر يرسخ الفخر بالحضارة المصرية، ويعزز ارتباط المواطنين بجذورهم الثقافية والإنسانية، ونشر المعرفة الأثرية والتاريخية.
ويضم المتحف قاعات تعليمية تفاعلية ومراكز بحثية متخصصة تتيح للطلاب والباحثين فرصًا للتعلم والتدريب، ما يسهم في بناء جيل واعٍ بقيمة التراث وأهمية الحفاظ عليه.
كما يعتبر المتحف، منصة للحوار الثقافي العالمي، وذلك من خلال التعاون مع المتاحف العالمية، واستضافة المعارض الدولية، ويسهم في مد جسور التواصل بين الشعوب، ويعزز دور مصر كمركز ثقافي عالمي.
ويهدف المتحف كذلك إلى إحياء الوعي المجتمعي بالتراث، بدمج الثقافة في حياة المواطنين من خلال الأنشطة والفعاليات الفنية والتعليمية، ما يجعل الثقافة جزءًا من الممارسة اليومية.
وأكدت وزارة السياحة والآثار المصرية، في بيانٍ عبر موقعها الإلكتروني، أن المتحف سيكون مركزًا عالميًا لأبحاث المصريات (Egyptology)، كما سيعمل على ربط المؤسسات البحثية الدولية بمصر عبر شراكات وتعاون مشترك.
ويضم المتحف أكبر مركز لترميم الآثار في الشرق الأوسط، وهو مجهز بأحدث المعامل، ويشرف عليه نخبة من الخبراء المصريين والدوليين كما سيوفر برامج تعليمية وتدريبية للمتخصصين والطلاب، ما يرسخ دوره كمنصة معرفية وليست فقط سياحية.
وفي السياق ذاته، قالت إيريكو أوساكي، الممثلة المقيمة لوكالة التعاون الدولي اليابانية (جايكا) في مصر، في تصريحات صحفية؛ بمناسبة تسليم معدات تقنية للمتحف: "إن هذا المشروع يمثّل نموذجًا للتعاون الثقافي والتنمية المستدامة.. جايكا فخورة بأن تكون شريكًا في بناء هذا الصرح الذي يعزز التبادل الثقافي بين مصر والعالم".
اقتصاد يدعمه التاريخ
يمثل المتحف المصري الكبير مشروعًا استثماريًا ضخمًا يحقق عائدًا اقتصاديًا طويل المدى لمصر، من خلال عناصر متعددة أهمها تنشيط السياحة الدولية، فمن المتوقع أن يجذب ملايين الزوار سنويًا، خاصة بعد افتتاحه، ما يسهم في زيادة إيرادات الدولة من قطاع السياحة الثقافية.
كما يعمل على خلق فرص عمل مباشرة وغير مباشرة، خاصة أن المشروع أسهم في تشغيل آلاف العاملين في مجالات الهندسة والبناء والترميم والخدمات السياحية، فضلًا عن فرص العمل المستمرة في مجالات الأمن والإدارة والتسويق الثقافي، إلى جانب دعم الصناعات الإبداعية والحرفية، ومن خلال المتاجر والمعارض التابعة للمتحف، يتم الترويج للمنتجات الحرفية المصرية عالية الجودة، ما يعزز الاقتصاد المحلي ويربط بين الفن والتراث والإنتاج.
كما يمثل نموذجًا للاستثمار في الثقافة كقطاع منتج، إذ يدر عوائد مالية من التذاكر والفعاليات والعروض، إلى جانب دوره في جذب استثمارات أجنبية في مجالات السياحة والخدمات.
وقال شريف فتحي وزير السياحة والآثار المصرية، في تصريحات رسمية أدلى بها في أكتوبر 2025، إن "المتحف المصري الكبير يمثل ركيزة أساسية في إستراتيجية مصر لجذب نوعية جديدة من السائحين"، موضحًا أن المتحف ليس فقط مشروعًا للعرض المتحفي، بل هو محور جذب اقتصادي متكامل.
وأشار إلى أن المتحف يستقبل حاليًا بين 5 و6 آلاف زائر يوميًا في مرحلة التشغيل التجريبي، متوقعًا تضاعف العدد بعد الافتتاح الرسمي.
وأكد الوزير أن افتتاح المتحف سيسهم في تحقيق هدف الدولة المعلن بجذب 30 مليون سائح سنويًا بحلول عام 2028، مقارنة بـ15 مليون سائح خلال أول تسعة أشهر من عام 2025.
كما ذكرت وزارة السياحة المصرية أن السياحة تمثل 8.5% من الناتج المحلي الإجمالي، وتوفر 2.7 مليون فرصة عمل، ومن المتوقع أن يسهم المتحف في زيادة هذا الرقم من خلال تنشيط قطاعات الفنادق، والنقل، والتسوق، والخدمات الثقافية.
وأوضح وزير السياحة والآثار أن المعروضات بالمتحف تتجاوز 100 ألف قطعة أثرية، أبرزها مجموعة الملك "توت عنخ آمون" الكاملة، والتي يتم عرضها للمرة الأولى في موقع واحد، ما يضيف للمتحف جاذبية عالمية لا مثيل لها.
كما سيسهم المشروع في تحفيز الاستثمار الفندقي والخدمي حول المتحف، وتشير تقارير حكومية إلى تخصيص أراضٍ لمشروعات تجارية وفندقية جديدة بجوار المتحف، ضمن رؤية تنموية متكاملة.
وفي هذا السياق، قال "فتحي"، في لقاء صحفي، إن "المتحف المصري الكبير لا يمثل فقط نقطة جذب للزوار، بل هو مشروع اقتصادي متكامل سيحدث تحولًا في خريطة السياحة والثقافة في مصر".
بعد اجتماعي وتنموي
يمتد الأثر الثقافي للمتحف إلى المجتمع المحلي أيضا، حيث أوضحت وزارة السياحة- في بيانها الصادر في سبتمبر 2025- أن المتحف سيوفر مساحات للأنشطة المجتمعية، وورش العمل الفنية والتعليمية، بهدف ربط الجمهور المصري، وخاصة الشباب، بهويته الثقافية.
ومن المتوقع أن يحفز المشروع، التنمية الاقتصادية في محافظة الجيزة المصرية، من خلال توفير آلاف فرص العمل المباشرة وغير المباشرة، وهو ما أشار إليه تقرير لوزارة التخطيط نشرته في يوليو الماضي، حيث قدرت فرص العمل المرتبطة بالمتحف بأكثر من 30 ألف وظيفة مباشرة وغير مباشرة منذ بدء التنفيذ.
نموذج للاستدامة البيئية
يعد المتحف أول مشروع ثقافي في مصر يحصل على شهادة "EDGE Advanced" للبناء الأخضر، وفقًا لما أعلنته وزارة البيئة بالتعاون مع مؤسسة التمويل الدولية (IFC).
وتؤكد البيانات الرسمية، أن المتحف يوفر 60% من استهلاك الطاقة مقارنةً بالمباني التقليدية، ويستخدم أنظمة ذكية للإضاءة والتهوية والطاقة الشمسية. وبهذا يصبح المتحف ليس فقط صرحا أثريا، بل رمزا لمستقبل مستدام، يجمع بين عبق الماضي ووعي الحاضر.
رأسمال رمزي واستثماري
المتحف المصري الكبير ليس مشروعا ثقافيا فحسب، بل هو استثمار استراتيجي في أحد أهم موارد مصر والمتمثلة في حضارتها، وذلك من خلال دمج التراث بالسياحة، والعلم بالاقتصاد، ليقدم المتحف نموذجا مغايرا لاستغلال القوى الناعمة في تنمية الاقتصاد الوطني، وتعزيز الصورة الذهنية لمصر كدولة تمتلك التاريخ والمستقبل معا.
وإذا كانت الدولة تراهن على السياحة كمورد حيوي، فإن المتحف المصري الكبير هو الورقة الرابحة في هذا الرهان، ليس فقط لأنه يضم آلاف القطع الأثرية، بل لأنه يعيد تقديم مصر للعالم بوصفها مركزا حضاريا وإنسانيا رائدا.