بعد مرور عامين من الإبادة، تحوّل قطاع غزة إلى بؤرة وبائية غير مسبوقة، إذ لم تعد آلة الحرب الإسرائيلية تقتل بالقنابل فقط، بل أضافت إليها سلاحًا فتاكًا آخر، وهو الأمراض المعدية والأوبئة، التي تنتشر بسرعة مرعبة وسط الازدحام الشديد وانهيار المنظومة الصحية وتلوث المياه وسوء التغذية الحاد.
العوامل الكارثية وراء الانفجار الوبائي
كشفت منظمة الصحة العالمية أن عدة عوامل متداخلة حوّلت غزة إلى قنبلة وبائية موقوتة، أبرزها الازدحام الشديد في مناطق النزوح، الذي يرفع احتمالية انتقال العدوى بشكل كبير، إضافة إلى انهيار شبكات الصرف الصحي بالكامل وتلوث مياه الشرب.
كما أن سوء التغذية أضعف جهاز المناعة لدى السكان وجعلهم أكثر عُرضة للإصابة بالعدوى، بينما أدى تدمير معظم المستشفيات والمؤسسات الصحية إلى غياب الرعاية الطبية الكافية.
عودة شلل الأطفال بعد ربع قرن
في مشهد يلخص حجم الكارثة، أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية، 16 أغسطس 2024، تسجيل أول إصابة مؤكدة بفيروس شلل الأطفال لطفل عمره 10 أشهر فقط، لأول مرة منذ 25 عامًا.
وقبل اندلاع الحرب، نجح القطاع في الحفاظ على وضعه منطقة خالية من شلل الأطفال لأكثر من ربع قرن، وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، لكن الأوضاع الكارثية الناتجة عن الحرب دفعت وزارة الصحة، 29 يوليو 2024، لإعلان القطاع منطقة وباء لشلل الأطفال.
الأمراض المنقولة بالمياه الملوثة
يمثل التهاب الكبد الوبائي "أ" أحد أخطر الأمراض المعدية تفشيًا بين النازحين، إذ أفادت بيانات الأمم المتحدة بقفزة مرعبة من 85 حالة فقط قبل الحرب إلى 40 ألف حالة منذ بداية الحرب، كما أن المرض الذي ينتقل عبر تناول الطعام أو الماء الملوث يتميز بأعراض مثل اليرقان وإصفرار الجلد وبياض العينين والحمى وفقدان الشهية، وتستمر الأعراض عادة من 10 إلى 20 يومًا.
وأفاد مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية "أوتشا" بتسجيل 107 آلاف حالة من متلازمة اليرقان الحاد بين النازحين، بحلول يوليو 2024.
أما أمراض الإسهال المعدية، فتفاقمت حالاتها كثيرًا، إذ سجلت وزارة الصحة 59 ألف حالة إسهال، منذ بداية الحرب حتى منتصف 2025.
هذه الأمراض تنتج عن عدوى فيروسية أو بكتيرية أو طفيلية من تناول طعام أو شراب ملوث، ويُعتبر الجفاف أخطر مضاعفاتها، إذ يفقد الجسم كميات كبيرة من السوائل، وهذا يُشكل تهديدًا للحياة خصوصًا عند الأطفال وكبار السن.
وبشأن الكوليرا، نقلت تقارير أممية عن أطباء مختصين عملوا في غزة أن ظروف الازدحام ونقص المياه والحرارة وسوء الصرف الصحي هي عوامل محفزة لانتشار هذا الوباء العالمي، الذي يتسبب في أعراض حادة مثل الإسهال الشديد والقيء، ما قد يؤدي بسرعة إلى الجفاف الشديد والصدمة، وفي الحالات الأكثر خطورة الوفاة.
معاناة تفوق الوصف مع الأمراض الجلدية
حذرت منظمة الصحة العالمية من أن نحو 9000 حالة من الجرب والقمل، سُجلت خلال الشهر الأول من الحرب فقط، لترتفع الأرقام بشكل مخيف، إذ سُجلت 12 يناير 2024 نحو 26 ألف حالة جرب و3600 حالة تقمل بين النازحين.
ووثق مكتب "أوتشا" أكثر من 103 آلاف حالة جرب وقمل، إضافة إلى أكثر من 65 ألف حالة من الطفح الجلدي في مخيمات النزوح حتى نهاية يوليو 2024.
موجة قاتلة تجتاح الأطفال
سجلت وزارة الصحة في غزة 245 ألف إصابة بأمراض الجهاز التنفسي، منذ بداية الحرب في السابع من أكتوبر 2023.
وفي بداية سبتمبر 2025، حذرت الوزارة من أن "موجة فيروسية قاسية" من الإنفلونزا تعصف بالأطفال، في ظل ضعف مناعتهم نتيجة نقص الغذاء الناجم عن سياسة التجويع الإسرائيلية.
وقال الدكتور أحمد الفرا، مدير مستشفى التحرير للأطفال بمجمع ناصر الطبي في خان يونس: "تعصف بالأطفال في غزة موجة فيروسية قاسية من الإنفلونزا"، مضيفًا أن "الأقسام ممتلئة بالحالات التي تعاني التهاب القصيبات نتيجة الفيروس الموسمي، وهذه السنة لها خصوصية، بسبب الازدحام الكبير داخل المستشفيات حيث يضطر المرضى للنوم على الأرض بين الأسرة".
وأوضح أن الفيروس "أكثر شدة" من الأعوام الماضية، لأن الأطفال لا يملكون جهازًا مناعيًا قويًا بفعل نقص الغذاء اللازم لمكافحة الأمراض.
من جانبه؛ أعلن المكتب الإعلامي الحكومي، نهاية أغسطس الماضي، أن القطاع شهد انتشارًا واسعًا وحادًا لسلالة جديدة من الإنفلونزا، لا سيّما بين النازحين، مؤكدًا أن الإصابات تقدر بالآلاف في جميع محافظات القطاع مع تزايد يومي ملحوظ، خصوصًا بين الأطفال وكبار السن ومرضى الأمراض المزمنة.
تهديد متصاعد
اعتبرت منظمة الصحة العالمية، أن الظروف الحالية في غزة تخلق بيئة مثالية لانتشار الجدري المائي، إذ يعزز الاكتظاظ في مخيمات النزوح انتقال هذا المرض الفيروسي سريع التفشي.
ووفقًا لتقرير مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، تشير الأرقام الأخيرة إلى تسجيل نحو 11 ألف حالة من الجدري المائي حتى نهاية يوليو 2024.
أما التهاب السحايا، وهو التهاب الأغشية المحيطة بالدماغ والحبل الشوكي، فقالت وزارة الصحة، يونيو 2025، إنها سجلت 337 إصابة منها 259 حالة فيروسية، منذ بداية العام الجاري.
وتتضمن أعراضه المحتملة حمى شديدة مفاجئة وتيبسًا في الرقبة وحساسية تجاه الضوء والنعاس وصعوبة الاستيقاظ والطفح الجلدي، إذ يكون الأطفال دون سن الخامسة معرضين بشكل خاص للإصابة بالنوع الفيروسي.