تظل المنافسة في موسم الصيف وتحديدًا الشق الغنائي شديدة الخصوصية لما تشهده من مشاركة كبار نجوم الغناء في الوطن العربي الذين أعدوا العدة على مدار أشهر متواصلة من العمل ومواصلة الليل بالنهار داخل الاستوديوهات، رفقة شعراء وملحنين وموزعين استعدادًا لهذا الموسم الخاص، فكان المنتجون يدفعون بأهم نجومهم في هذه المدة الزمنية القصيرة لتصبح المنافسة بين الكبار الذين تبدلت مراكزهم في بورصة الغناء ليخرجوا من السباق ويدخل آخرون.
لا يقتصر الأمر على كبار النجوم فحسب لكن لموسم الصيف شروط ومعايير في طبيعة الأغنيات أيضًا التي يفضّل أن تكون صيفية بامتياز، ولعل أقرب مثال على ذلك هو المطرب أحمد سعد الذي طرح مع بداية العام الجاري ألبوم "حبيبنا" فرغم أنها تجربة موسيقية مميزة، لكن صنّاعه ارتأوا وقتها أنها لا تتناسب وموسم الصيف، قبل أن يطرح تجربة أخرى في صيف 2025 لألبوم حمل اسم "بيستهبل"!.
وفي السياق ذاته قد لا تتناسب طبيعة الاختيارات الغنائية لهذا الموسم مع عدد آخر من المطربين رغم نجاحهم بأعمال لافتة حققت صدى واسع عند الجمهور، دون أن يقلل من حجم تجربتهم أو منجزهم الفني ومشروعهم الغنائي، لكن هناك من ضرب بهذه النظريات عرض الحائط، والسير عكس التيار دون أن يجنح ولو قليلًا إلى شروط الموسم الغنائي، رغم منافسته لعدد لا بأس به من نجوم الأغنية في مقدمتهم عمرو دياب.. هذا ما فعله المطرب المصري حمزة نمرة بـ"قرار شخصي" جدًا، وهي الأغنية التي حملت اسم ألبومه المتضمن 13 أغنية.. قد يرى البعض أن قرار "نمرة" مغامرة غير مأمونة العواقب، لكن رده كان جاهزًا في إحدى أغنيات الألبوم: "باخد سكتي عادي مفيش أحلى من العادي وتيجي زي ما تيجي".
المُتبع لمشوار المطرب المصري يرى أنه تمكن بذكاء شديد من بناء قاعدة جماهيرية كبيرة عبر سنوات طويلة منذ كان الأمر مجرد حلم دعا فيه جمهوره قائلًا "احلم معايا"، ليثبّت نفسه كمطرب، ويتمكن من بناء مشروعه الغنائي واضح المعالم ويصبح اسمه في غضون سنوات علامة تجارية من يراها يوقن أنه على موعد مع حالة إبداعية متفردة.
كل هذه المُعطيات مهدت له الطريق كي يفرض شروطه في موسم الصيف، لا العكس، فجمهوره الذي بنا معه جدار من الثقة لا يشغله ما إذا كان مطربهم المفضل سيمنحهم إبداعه في الصيف أو الخريف، لاسيما أن ما يطرحه هو ما يؤمن به ويتطابق مع مدرسته الغنائية، لكنه في الوقت نفسه وبذكاء ملحوظ افتتح الألبوم بأغنية "شمس وهوا" ذات الرتم السريع والكليب الذي جاء مبهجًا وهو اللون الأقرب للصيف، قبل أن يقدم مزيج من الإبداعات في باقي أغنيات الألبوم على طريقته المعهودة من ألوان وأشكال موسيقية تنتمي لطبيعته الفنية، وعدم التقيد بالغناء العاطفي فقط.
"ما بتلاقينيش براحتي إلا وياكي وما بشوفنيش بفضفض غير وأنا معاكي"، بهذه الكلمات قدّم نمرة اللون الرومانسي بالألبوم، بينما اختار في الدراما : "طال غيابك ياللي سايب" ذكريات ما بننساهاش لو بيرجع كل غايب يوم رجوعك ليه ماجاش؟"، وبمصطلحات قريبة من الشارع دون انزلاق لمرحلة الإسفاف قدّم اللون الشعبي في "بتستخبى" قائلًا: "ولاد الناس الشبعانين معروفين والمدعين المُحدثين مفقوسين مهما حاولوا ياخدوا لقطة مهروشين مهما حاولوا يداروا برضه مكشوفين"، وغيرها من الأغنيات التي حملت كلمات غير مألوفة أو مكررة اختارها بعناية شديدة انطلاقًا من إيمانه بجودة ما يطرحه، وخبرته مع جمهوره الذي يعرف ما يريده منه، كلها عناصر منحته الثقة الكافية لينافس قمم الغناء في موسم غنائي لا يرحم.
"عامل اللي عليك ما بتفكرش وماشي متطمن.. مش فارقة معاك تقفل تفتح ولا تضمن.. راضي من جواك عارف إن مفيش حاجة تضّمن.. قلبك نور بينور لما الدنيا تضلم" بأغنية "كله على الله" إحدى روائع الألبوم الجديد فسّر لنا "نمرة" فلسفته في الحياة بشكل عام، فهذا الشاب الذي يظهر في أغلب أغنياته المصورة مصطحبًا جيتار، عود، أو بيانو، ودون الحاجة إلى لوك غير مألوف أو ملابس غير متناسقة تحت مسمى مسايرة الموضة، يؤمن جيدًا أن التأثير الحقيقي في العمل الغنائي للكلمة واللحن والتوزيع الموسيقي، وأن كل المؤثرات البصرية الأخرى التي يستخدمها البعض كأساس مع العنصر الغنائي في أعمالهم لا يحتاجها خصوصًا أنها قد لا تتناسب مع طبيعته وصورته التي رسمها منذ اليوم الأول لظهوره، حتى وصوله إلى لحظة "قرار شخصي" هذا العمل الفني الذي يشير إلى نضج واضح في شخصيته الغنائية واختياراته، ومنافسته للكبار والصمود أمامهم في موسم صعب بمشروعه الغنائي الذي لم يحيد عنه أو يتراجع عن جزء منه، ولكنه يضيف إليه في كل مرة بدقة وبإخلاص دون أن يُنقص منه باختيارات خاطئة لا تناسبه، حتى صار مشروع حمزة نمرة رقمًا مهما في عالم الغناء، ومدرسة موسيقية عنوانها القيمة الفنية.