الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

أنغام.. بحبك وحشتيني

  • مشاركة :
post-title
المطربة أنغام

القاهرة الإخبارية - شريف نادي

ما أصعب المرض.. ما أشد قسوته التي يفرضها على المريض بعد أن يسجنه داخل أوجاع لا تنتهي.. مجرد لحظة فاصلة يتحول فيها الوجع الكامن داخل الجسد إلى وحش كاسر يقلب فيها موازين صاحبه، لا يبرح حتى يُفسد كل الخطط التي رسمها المريض لنفسه وقت كان مُعافى.. أتصور أن المرض يجيد انتقاء توقيت الهجوم في وقت يعيش فيه الجسد نشوة النجاح وحصاد سنين عانى خلالها ليصل إلى القمة، وما أن يلبث الوصول تُرغمه الآلام ونصائح الأطباء بالتوقف ليجد نفسه مُحاصرًا داخل دوامة قد لا تنتهي.. فجأة تتحول نبرات الصوت التي كانت تطرب المستمعين إلى نشاز من الوجع، ودموع الفرح إلى بكاء حقيقي، تهنئة المحبين بالنجاح إلى برقيات تتمنى الشفاء العاجل.. صيحات الإعجاب والإشادة تصبح بديلًا لصوت السكون داخل تلك الغرفة الكئيبة ذات الإضاءة الخافتة، وأصوات الأجهزة التي قد تتحول بين لحظة وأخرى إلى إنذار يفيد بتدهور الحالة الصحية.

المطربة أنغام

كثيرون من كبار المبدعين لم يمهلم المرض أو القدر فرصة لاستكمال نجاحهم أو مشوارهم الإبداعي الذين سعوا على مدار سنوات للوصول إليه قبل أن يداهمهم فجأة ليحطم كل الآمال والمشروعات التي سعوا إليها، ولعل أقرب مثال على ذلك كان الفنان الكبير أحمد زكي الذي كان يعيش نشوة النجاح بأعماله الفنية وما إن شرع في تنفيذ حلم عمره فيلم "حليم"، حتى داهمه المرض دون رحمة، ليولد صراع نفسي كبير بين التمسك بالحياة والحلم والأمل متمثلًا في استكمال مشروعه الفني، وصراع مع مرض لا يرحم ينهش في جسده متوقع أن ينهي حياته في لحظة ليهدم كل الخطط التي رسمها لنفسه.

أتذكر في إحدى المرات روى لي أحد المنتجين الموسيقيين الكبار إصرار المطربة الراحلة فايزة أحمد على استكمال تسجيل أغنيتها "لا يا روح قلبي أنا"؛ رغم معاناتها الشديدة من مرض السرطان، ورغبة في تسجيل الأغنية التي لاقت إعجابها لتخلّدها بصوتها خصوصًا أن الشاعر حسين السيد مؤلف الأغنية، والملحن رياض السنباطي، توفيا قبل أن يسمعاها مُسجلة بصوت "كروان الشرق"، ذهبت المطربة الكبيرة إلى الاستوديو رغم الآلام الشديدة، وحدث ما توقعه البعض إذ داهمتها بعد فترة وجيزة من التحضير آلام لا تحتمل، فنصحوها بالتسجيل في وقت آخر لكنها رفضت، واختارت وضعًا للجلوس عن طريق وضع 3 كراسي متجاورة لتفرد جسدها عليه بطريقة قد تريحها أثناء التسجيل مع ضبط الميكروفون بما يتناسب مع وضع جلوسها ولم تتحرك إلا وقد انتهت من المهمة بنجاح متحدية كل هذه الظروف الصعبة، ولا شك أن الأمثلة كثيرة ومتعددة لمبدعين أصروا على استكمال مشروعاتهم الفنية، رغم كل الظروف القدرية القهرية التي قد تواجههم، لعل أبرزها عبد الحليم حافظ، محمد فوزي، أنور وجدي وغيرهم ممن وصلوا إلى القمة بعد معاناة، لكن المعاناة أبت أن تتركهم وحدهم على القمة.

أنغام

منذ اللحظة الأولى التي أطلت في ثمانينيات القرن الماضي على شاشة التلفزيون المصري فتاة صغيرة رفقة والدها الملحن الكبير، وهي تغني وتحاول تقديم نفسها كموهبة جديدة أحبها الجمهور وكأنها ابنتهم، لاسيما أن عمها أحد كبار المطربين الذي لم يمهله الموت أيضًا الفرصة لتقديم تجربته الفنية كاملة، مرت السنون ونجحت تلك الفتاة صغيرة السن كبيرة الموهبة نجاحًا، حافظت خلالها على تقديم تجربتها الموسيقية على أكمل وجه، بعد أن جمعت بين الحداثة والأصالة، بجانب الصوت القوي الرصين الذي يُقدر بالذهب، وهي الخلطة التي أشعرتنا أنها الامتداد الطبيعي للكبار فيروز، وردة، نجاة، وفايزة أحمد، وكأنها تسلمت منهم الراية لتستكمل المهمة بنجاح، وتؤكد هذه الفتاة أنها ليست مجرد طفلة تهوى الغناء، ومع كل تجربة تتضح تجربتها الموسيقية ومشروعها الغنائي الذي لا يُنافس.

أنغام.. اسمها وحده يكفي

أنغام هي الإحساس المُرهف الذي لا يُخطئ طريقه إلى قلب المستمع، الصوت المليء بالنغم والشجن، والمُعبر الحقيقي عن مشاعر الفتاة المُرهفة، هي حالة لا تتكرر، صاحبة مدرسة موسيقية ومشروع فني ستخلده الموسيقى العربية.

أنغام

على مدار أكثر من 37 عامًا تقريبًا قدمت أنغام نحو 26 ألبومًا تمكنت من أن تكتب في كل واحد منهم كتاب يعبّر عن موهبتها الثمينة ومحاولاتها أن تقبض على رسالتها الفنية، وسط موجات غنائية تقدم ما لا يطلبه المستمعون فيما تطرح هي ما يُطرب المستمعين متمسكة بلونها الشرقي وصوتها الدافئ، لكن هذا لم يمنعها من البحث في خيرات الموسيقى الغربية بما يتناسب معها، لتقدم تنوع غنائي وموسيقي يخدم مشروعها الفني الكبير التي كانت ترى نتائجه، لتثبت أنها تمتلك بُعد نظر دون أن تكترث بأي محاولات قد تحيدها عن المسار الذي رسمته لنفسها، فهي من غنت "في الركن البعيد الهادي"، و"عمري معاك" وبحبك وحشتيني"، وهي من غنت للموسيقار الراحل عمار الشريعي تتر "حديث الصباح والمساء" هذه السيمفونية الخالدة التي تؤكد أننا أمام مطربة من العيار الثقيل تعرف أن تختار وتقرر ماذا ستغني ومتى؟

هي من غنت برومانسية حالمة: "تقول لي الليل على شعري بقى بينام كلام ماسمعتهوش عمري ولا في دنيا ولا في أحلام وصوتي بتسمعه غنوة عيوني بسحرها قاتلاك وأنا لو حلوة أنا حلوة عشان وياك، وهي المجروحة القوية التي قالت: ممكن تسيبني اشتري عمري اللي باقي قول بكام.. مش عايزة أعيشه معاك عشان لو عشته كله جراح حرام، وهي الضعيفة حين قالت: أنا سانده عليك لو يوم الدنيا بتيجي عليا أنا بتحامى فيك وفي عز البرد بلاقي دفايا في حضن عنيك، وهي التي عادت وقالت: ياريتك فاهمني بجد زي ما بفهمك وتقرا اللي جوايا أما عيني تبص لك يا حلمي اللي متأجل وأنا هموت وأحلمك يا عمري اللي ناقص عمر نفسي أكملك".

أنغام

أنغام التي لم تجنح إلى موضوعات مطروقة نجحت في أن تختار لنفسها مفردات خاصة وخالصة لا تغنيها إلا أنغام وموسيقى تألف صوتها صاحب القدرة غير المحدودة على التنوع؛ لتمكن أي مُلحن أن يقدم ما يحلو له من ألوان موسيقية ومن سيفعل ذلك سوى أنغام؟!، ولأنها تدرك ذلك جيدًا لم تحبس صوتها داخل تجربة مُلحن أو شاعر واحد أو حتى موزع موسيقي واحد، ومنحت نفسها الفرصة لتقديم تجارب مختلفة ومغايرة هي باختصار "حالة خاصة جدًا" في عالم الغناء حالة متفردة وموهبة طاغية وصوت من رائحة الزمن الجميل.

لم يكن غريبًا على المستمع في ظل الإنتاجات الموسيقية الكثيفة التي طُرحت مؤخرًا، رغم اجتهاد صناعها وجودة ما قدموا من أغنيات، أن يشعر أنه هناك صوت ناقص ليُكمل خريطة موسم الصيف، نعم صوت مطربته المفضلة التي رافقته على مدار سنوات طويلة اجتهدت ونجحت وتميزت، حافظت على مكانتها في قلوبهم، لم يبدر منها أفعال تنتقص من حجم نجوميتها في قلوبهم بل حرصت على أن تكون مثالا لمطربة مُلتزمة تعرف جيدًا حجم موهبتها وتحافظ عليها وتقدرها حق قدرها أسوتها في ذلك كبار المطربات التي تربت على أصواتهن، لكن الظرف قهري والألم لا يحتمل أدى إلى غياب خارج عن إرادتها.

أنغام

مبحبش حد يشوف أي دموع في عينيا.. علشان لا أصعب عليه ولا يزعل عليا.. مبحبش أبان مغلوبة ضعيفة وصورتي في نظر الناس تتهز.. ولا حد يشوفني يقول مسكينة يا عيني عليها ومالهاش حظ.. وأضحك وكأن الضحكة بجد مش محتاجة طبطبة من حد.. السطور السابقة لم تكن مجرد أغنية لأنغام، كتب كلماتها الشاعر الكبير أيمن بهجت قمر ولحنها خالد عز، بل كانت قاعدة وضعتها في حياتها، لذا في أشد لحظات المرض لم تُعلن عن مرضها أو تفاصيله سوى بالصدفة البحتة من خلال مداخلة هاتفية.. دخلت أنغام المستشفى وأجرت عملية جراحية دون أن تخبر أحد سوى المحيطين بها من دائرتها المقربة، فيما يتابع جمهورها العريض أخبارها لحظة بلحظة من الأصدقاء والمقربين الذين يدلون بتصريحات تلفزيونية أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وبين هذا وذاك ترتفع الأصوات بالدعوات بالشفاء لتعود صوت مصر إلى مكانها الطبيعي على المسرح أو داخل استوديوهات التسجيل لتطرب جمهورها الذي يقول لها كل يوم، أنغام.. بنحبك وحشتينا.