تحوّلت السوشيال ميديا من نافذة للتواصل الإنساني إلى مرآة لعالم يعجّ بالأوهام الرقمية، إذ أصبح "الترند" هو المعيار، والشهرة السريعة هي الهدف، ولو على حساب القيم والعلاقات وحتى المصائر، الأمر الذي عكسته الأعمال الفنية التي أطلقت أجراس الإنذار، حول الجانب المظلم لهذا العالم الافتراضي الذي بات يتغلغل في تفاصيل الحياة اليومية.
من أفلام درامية تحاكي هوس الشهرة إلى مسلسلات تفضح التزييف والانفصال الأسري، يرصد موقع "القاهرة الإخبارية" مجموعة من الإنتاجات المصرية الحديثة التي سلطت الضوء على مساوئ السوشيال ميديا، ورأي النقاد والصناع فيها.
"ريستارت".. ترند الحب المشروط
جاء فيلم "ريستارت" ليطرح واحدة من أبرز الإشكاليات التي باتت تهيمن على العلاقات الإنسانية، وهي السعي وراء الشهرة عبر الإنترنت، ولو على حساب المشاعر الحقيقية. تدور القصة حول "محمد" الذي يعمل فني هواتف ويطمح للزواج من "عفاف" المؤثرة الطموحة، لكن الأزمة المالية تجبرهما على السعي خلف الترند بأي ثمن بمشاركة عائلتيهما.
الفيلم بطولة تامر حسني وهنا الزاهد، بمشاركة باسم سمرة، محمد ثروت، عصام السقا، وعدد من النجوم، تأليف أيمن بهجت قمر، وإخراج سارة وفيق.
ضرورة الرقابة الرقمية
في فيلم "استنساخ" يقدّم الفنان سامح حسين، تحذيرًا غير مباشر من تمدد الذكاء الاصطناعي عبر السوشيال ميديا، من خلال شخصية "يونس العربي"، الذي يقع في ورطة كبرى بعد أن تبدأ التكنولوجيا في التحكم بحياته، وهو ما يعكس تحذيرًا واضحًا من فقدان السيطرة في ظل التطور التقني المتسارع.
وجسدت الفنانة ريهام حجاج في مسلسل "أثينا" ضرورة الرقابة الرقمية، إذ أوضحت في تصريحات صحفية أن المسلسل لا يقتصر على تناول "الدارك ويب"، بل يكشف كيف أصبح الخطر في داخل منازلنا من خلال الهواتف المحمولة، إذ يمكن لأي غريب أن يخترق حياة الأسرة ويؤثر على الأبناء في ظل هوس التفاعل الافتراضي.
وقالت ريهام في تصريحات خاصة سابقة لموقع القاهرة الإخبارية: "المسلسل لا يتناول فقط فكرة "الدارك ويب" كما يعتقد البعض، لكنه يناقش بشكل أوسع مخاطر السوشيال ميديا والانفتاح الذي نعيشه حاليًا، فالشباب اليوم يحملون الهواتف الذكية في أيديهم طوال الوقت، ويمكنهم التواصل مع أي شخص في أي مكان بالعالم دون أي رقابة".
وأضافت: "لذا فالخطر أصبح في داخل منازلنا وليس في الشارع فقط، وقديمًا كان الآباء يحذرون أبناءهم من التحدث مع الغرباء في الشارع، بينما اليوم الغرباء يدخلون من خلال الشاشات، ولهذا السبب أردنا أن نقدم هذا الخطر بشكل درامي ليشاهده الشباب بعينهم ويتعلمون منه حتى لا يعطون الأمان لأي شخص يقول لهم "ممكن نتعرف" دون أن يعرفوه".
"سوشيال" وتشتت الشباب
يخوض الفنان أحمد زاهر بطولة مسلسل "سوشيال"، يقدم من خلاله معالجة درامية لحالة التشتت التي يعانيها الشباب في عصر المنصات، وسعيهم المستميت وراء "الترند"، دون إدراك لحجم التلاعب والتزييف الذي يقع فيه الكثيرون.
"ورا كل باب"
ضمن سلسلة "ورا كل باب" جاءت حكايتا "عائلة جيجي" و"كدبة كبيرة"، لتتناولا بعمق تداعيات الانفصال الاجتماعي داخل الأسرة الواحدة بسبب الهوس بالسوشيال ميديا. كما ترصد الحلقات كيف أصبح بعض الشباب يعتبرون البلوجرز والمشاهير قدوة، رغم اعتمادهم على تزييف الواقع وبيع الوهم لتحقيق الشهرة والمال.
"أعلى نسبة مشاهدة"
في عمل مستوحى من قصة واقعية، تناول مسلسل "أعلى نسبة مشاهدة" رحلة فتاتين مراهقتين (ليلى أحمد زاهر وسلمى أبو ضيف) تندفعان وراء الـ"تيك توك" لجني المال وتغيير حياتهما، لتنتهي رحلتهما خلف القضبان. ويُعد هذا العمل بمثابة تحذير من الوقوع في فخ الشهرة الرقمية الزائفة.
"الحارس"
الفنان هاني سلامة يعود إلى السينما بعد 14 عامًا بفيلم "الحارس"، الذي يتناول تأثير السوشيال ميديا كأداة حرب نفسية، تهدف إلى زعزعة الثقة في الأسرة والمجتمع، بحسب وصف مخرج الفيلم ياسر سامي، ويطرح الفيلم تساؤلات جريئة حول كيف تتحول الشهرة الرقمية إلى سلاح يُستخدم لتدمير الوعي الجماعي، خاصة بين الأطفال والمراهقين.
ويقول ياسر سامي، في تصريحات سابقة لموقع "القاهرة الإخبارية": "الفيلم يخترق الجانب المظلم للسوشيال ميديا وما تحمله من مساوئ كثيرة، مثل ظاهرة البلوجرز وغيرها. العمل يحمل رسالة قوية، فهو يلقي الضوء على الهدف الرئيسي من صناعة السوشيال ميديا".
تابع: "السوشيال ميديا منظومة مصممة لتكون نوعًا من الحروب النفسية، تهدف إلى زعزعة ثقة الشعوب في مجتمعها وقيادتها، بهدف هدمها ببطء. فمثلًا، عندما يرى الطفل كيف يتحول البلوجرز إلى نجوم، يعزز ذلك بداخله قناعة أنه ليس بحاجة إلى والديه أو أسرته، وأنه من السهل أن ينساق وراءهم. كما أن السوشيال ميديا تسهم في إيذاء الآخرين من أجل تحقيق الشهرة، أو نشر الأكاذيب وتصديقها، ما يؤدي إلى تدمير صاحبها. هذه هي وظيفة السوشيال ميديا، أن تجعل الجميع يعيش في حالة من الهلع".
طارق الشناوي: واقع مؤثر يحمل جانبًا مظلمًا
وأكد الناقد الفني طارق الشناوي، أن مواقع التواصل الاجتماعي لم تعد مجرد وسيلة ترفيهية أو هامشية، بل تحوّلت إلى جزء أصيل من الواقع اليومي، حتى أصبح لها حضور دائم في الأعمال الدرامية والسينمائية والمسرحية، باعتبارها انعكاسًا مباشرًا لتأثيرها الكبير على المجتمع.
وقال الشناوي لموقع "القاهرة الإخبارية"، إن من الطبيعي أن تنتقل هذه الظاهرة من الحياة الواقعية إلى الشاشة، خاصة في ظل تحول المؤثرين على السوشيال ميديا إلى ظواهر اجتماعية وإعلامية، حتى إن بعض المهرجانات خصصت جوائز خاصة لهم تحت مسمى "جوائز المؤثرين".
وأشار إلى أن هذا التحول الكبير انعكس أيضًا على الإعلام التقليدي، الذي بات يواجه منافسة شديدة من الإعلام الموازي أو الإعلام الرقمي، وهو ما أدى إلى تراجع ثقة الجمهور في الوسائل الإعلامية التقليدية، وزيادة تعلقهم بمنصات التواصل، التي تقدم محتوى قد يكون أكثر جذبًا لهم.
ورغم اعترافه بوجود جانب إيجابي لهذه المنصات، شدد "الشناوي" على أن حديثه ينصب على الجانب السلبي والمظلم منها، خاصة ما يتعلق بتقديم نماذج سطحية أو مضللة تروج للربح السريع والمحتوى التافه، وهو ما يتطلب وقفة نقدية جادة.
وأوضح أن الدراما بطبيعتها تميل إلى تناول المناطق المظلمة من الواقع، وهذا ليس بالأمر الجديد، ضاربًا المثل بأعمال شكسبير، التي رغم عظمتها، تناولت شخصيات تحمل في داخلها صراعات قاتمة. وقال: "من الطبيعي أن تستفز الدراما هذه الجوانب المظلمة، والسوشيال ميديا توفر بيئة خصبة لهذا التناول النقدي".
ولفت إلى أن هذه الظاهرة ليست قاصرة على مصر وحدها، بل باتت ظاهرة عالمية، تستحق أن تكون محل اهتمام وتحليلًا عميقًا في الأعمال الفنية والإعلامية الجادة.
ماجدة موريس: فتحت جرحا مسكوتا
أكدت الناقدة الفنية ماجدة موريس، أن التأثير الطاغي لوسائل التواصل الاجتماعي على حياة الأفراد والمجتمع بات أمرًا لا يمكن إنكاره، مشددة على ضرورة التوقف أمامه وتحليله وتقديمه من خلال الأعمال الدرامية والفنية، باعتبارها إحدى أدوات الوعي الجماهيري المؤثرة.
وأشارت موريس لموقع "القاهرة الإخبارية"، إلى أن الفن يجب أن يواكب الواقع الاجتماعي ويعكس تحولاته، مستشهدة بمسلسل "أعلى نسبة مشاهدة"، قائلة: "ذلك المسلسل كان بمثابة فتح لجرحٍ كنا جميعًا نعلم بوجوده، لكننا نتغافل عنه. جرح فتاة صغيرة، في مقتبل حياتها، تعاملت مع وسائل التواصل الاجتماعي بوصفها وسيلة لبناء العلاقات والتفاوض بشأنها، بل والاعتقاد الخاطئ بإمكانية تحسين وضعها المعيشي وأسرتها من خلال هذه المنصات".
وأضافت أن دراما رمضان 2025 تناولت كذلك جانبًا شديد الخطورة من عالم التواصل الرقمي، إذ سلط بعضها الضوء على كيفية استخدام هذه الوسائل في ارتكاب الجرائم، وانخراط البعض في ممارسات غير قانونية عبرها، ما يعكس الحاجة الملحّة إلى التوعية.
كما علّقت موريس على ظاهرة "البلوجرز"، قائلة: "نطالع يوميًا عبر الشاشات وصفحات الجرائد، وفي هواتفنا، صورًا ونماذج لشخصيات تمكنّت من صناعة شهرة واسعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وحصلت على متابعين بالملايين، وهو ما يترتب عليه بطبيعة الحال مكاسب مادية كبيرة نتيجة تحقيق التفاعل وصناعة الترند. غير أن هذا النجاح الظاهري يثير تساؤلات عميقة حول الثمن الحقيقي الذي يُدفع مقابل هذه الشهرة".
وأكدت ضرورة المواجهة الواعية لهذا الواقع، قائلة: "نحن بحاجة إلى خطاب توعوي حقيقي، وعلى الفن أن يكون في طليعة هذه المواجهة، فالمشهد الراهن يتطلب وقفة جادة تعيد النظر في تأثيرات هذا الفضاء الرقمي المفتوح على الوعي والسلوك والمجتمع بأسره".
وأضافت: "ربما لا يستطيع الفن إيقاف الطوفان، لكنه يملك القدرة على إنذارنا من الغرق. وما قدمته هذه الأعمال الفنية مؤخرًا تذكر بأن ما نراه يوميًا على هواتفنا ليس دومًا حقيقيًا أو بريئًا، وأن ما يلمع على الشاشة قد يكون وهمًا يبتلع وعينا بهدوء".