تحول الطعام في غزة إلى حلم يسلي المُجوّعين في اليقظة والنوم، وصار الدواء أمنية، وبين هذا وذلك يخيّم الموت كل يوم على أهل القطاع كشبح لا يروي ظمأه سوى انتزاع عشرات الأوراح بل والمئات.
فبين خيام النزوح المتهالكة، وعلى أطراف أحياء مدمرة، يصارع الغزيون جوعًا يوميًا فرضه عليهم الحصار الإسرائيلي الخانق، في تقرير موسّع نشره موقع "+972" الإسرائيلي، تنكشف تفاصيل حملة تجويع ممنهجة جعلت من غزة مكانًا يتلاشى فيه الأمل، وتُروى فيه مآسي الحياة عبر صرخات الأطفال وأوجاع الأمهات.
واقع المأساة في غزة
أطفال يموتون بسبب الجوع ونقص الرعاية، هكذا روى أحمد دريملي، 34 عامًا، من سكان حي الدرج في غزة، قصة ابنه زين الذي توفي في 17 يوليو بعد معاناة منذ ولادته في سبتمبر الماضي، حيث أُصيب بعدوى بكتيرية نتيجة سوء تغذية والدته خلال الحمل، بسبب ندرة الغذاء وارتفاع الأسعار، وعانت زوجته من تساقط الشعر وآلام العظام واستنشاق دخان الحطب المستخدم في الطهي نتيجة انعدام الوقود.
ووُلد "زين" في مجمع الصحابة الطبي، وأمضى أول 17 يومًا في مستشفى جمعية أصدقاء المرضى الخيري، حيث تمت تغذيته عبر الوريد، وبعد خروجه، استمرت الحمى بمهاجمته، ولم يكن بالإمكان تشخيصه بسبب تدمير جهاز الرنين المغناطيسي الوحيد في غزة في غارة جوية إسرائيلية.
لاحقًا، لم يُسمح لـ"زين" بالخروج من القطاع لتلقي العلاج بسبب إغلاق المعابر، وقبل أيام تدهورت حالته ووُضع على جهاز تنفس صناعي، لكنه فارق الحياة بعد دقائق.
أوضح "دريملي" أن الأطباء أعادوا زين مراراً إلى المستشفى، لكنهم لم يتمكنوا من معالجته لغياب الأجهزة والمستلزمات الطبية، وعلّق قائلًا: "كان كل شيء بالنسبة لي ولزوجتي، كان نور بيتنا، وتمنينا ألا يموت طفلنا على هذه الأرض كما مات غيره".
مجاعة جماعية
تتفاقم الأزمة ويتصاعد عدد ضحايا المجاعة وفقًا لوزارة الصحة في غزة، إذ توفي 122 شخصًا جوعًا منذ أكتوبر 2023، منهم 83 طفلًا على الأقل، و54 منذ يوم الاثنين الماضي فقط، وأكدت الأمم المتحدة أن واحدًا من كل خمسة أطفال في غزة يعاني سوء تغذية حاد، مع ارتفاع مستمر في عدد الحالات، وأن أكثر من 100 منظمة إغاثة دولية حذرت من أن غزة تواجه "مجاعة جماعية".
ورغم دخول محدود لشاحنات المساعدات منذ أواخر مايو الماضي، فإن الهجمات الإسرائيلية على المدنيين في مواقع توزيع المساعدات، وعرقلة عمل المنظمات الإنسانية، زادت أعداد الشهداء وتركت معظم السكان دون طعام، وأعلن مكتب الإعلام الحكومي في غزة، في بيان، أن المعابر مغلقة منذ 145 يومًا من جهة إسرائيل، ودعا العالم إلى كسر الحصار فورًا والسماح بدخول الغذاء وحليب الأطفال.
البحث عن الخبز
نزحت وصال معروف، 34 عامًا، مع 9 من أفراد عائلتها إلى خيمة صغيرة بمساحة 16 مترًا مربعًا في ملعب اليرموك وسط مدينة غزة، وتحدثت عن ارتفاع أسعار المواد الأساسية، حيث وصل كيلو الدقيق إلى 200 شيكل، ولم يعد بإمكانها شراء سوى 100 جرام يوميًا لابنتها ميرا ذات الست سنوات، ذكرت أن ابنتها تبكي يوميًا من الجوع، بينما هي وزوجها يتنازلان عن حصصهما الغذائية.
تقول: "راتب زوجي المتواضع، 1200 شيكل (360 دولارًا) شهريًا، أصبح بلا معنى، إذ ارتفعت أسعار المواد الغذائية في غزة إلى مستويات لا تُصدق، أصبح سعر كيلو الدقيق بـ200 شيكل (60 دولارًا)، والأرز 180 شيكل (54 دولارًا)، والعدس 100 شيكل (30 دولارًا)، والطماطم المحلية 80 شيكل (23 دولارًا)، والخيار 70 شيكل (21 دولارًا).
ولسحب النقود، يعتمدون على وسطاء يتقاضون عمولةً قدرها 45%، فلا يبقى للعائلة سوى 660 شيكلًا بعد سحب 1200 شيكل، بالأسعار الحالية، بالكاد يكفي هذا المبلغ أسبوعًا.
"لم نأكل منذ 17 يوليو، لا نملك ثمن أي شيء من الأسواق؛ أعطاني بعض الأقارب بعض العدس، فقسمته على أيام وأعطيته لابنتي"، وتضيف "وصال معروف" قائلة: "ابنتي تطلب باستمرار خيارة أو طماطم، لكن حتى لو استطعت شراء واحدة، كيف سأتركها تأكلها أمام الأطفال الآخرين في الخيمة؟".
وأضافت أنها تتنقل يوميًا لساعات بحثًا عن نقطة توزيع مساعدات دون جدوى، وأنها دخلت في حالة من الإرهاق الدائم، وأحيانًا تنهار في الطريق، ووصفت معاناتها قائلة: "ظهري، عظامي، ذراعيّ - كل شيء يؤلمني من الجوع أخلد إلى النوم جائعة ومنهكة".
الجوع في الشيخوخة
يواجه عبد الله أبو جليلة "82 عامًا" الجوع في شيخوخته فهو لاجئ من قرية حوج، يعيش في خيمة بحي السرايا بعد تدمير منزله في جباليا خلال أكتوبر 2024، ويعيش مع زوجته و12 من أبنائه وأحفاده على وجبة واحدة يوميًا من مرق العدس الذي توفره مطابخ خيرية، لا تكفيهم، وذكر أنه غالباً يتنازل عن حصته لأحفاده الذين يبكون من الجوع حتى يناموا، قال: "لم أتخيل أن أصل إلى هذا الحال من الذل، الموت أعز من هذه الحياة".
قبل الحرب، كان يتقاضى راتبًا تقاعديًا من السلطة الفلسطينية، لكنه لم يعد يغطي شيئًا بعد ارتفاع الأسعار ورسوم السحب، قال: "نحتاج إلى 100 دولار يوميًا لنشتري نصف رغيف وبعض العدس"، لم يتناول جرامًا من السكر منذ أسابيع، وأكد أن صوت بكاء الأطفال أصبح مشهدًا يوميًا لا يغيب عن المخيمات.
أعراض جوع مهلك
وهذه سارة معروف، 53 عامًا، التي أُجبرت مع أبنائها الأربعة وعائلاتهم على الانتقال إلى خيمة في شارع عمر المختار بعد تدمير منزلهم في بيت لاهيا، والتي تعاني من هبوط حاد في السكر بسبب الجوع، وأغمي عليها مرتين في أسبوع واحد، فكانت قبل الحرب، تزرع وتوزع الخضروات على جيرانها، أما الآن، فهي تتوسل للحصول على الطعام.
تقول سارة: "أشعر بالدوار معظم الوقت، أغمي عليّ مرتين الأسبوع الماضي، فحملني أطفالي إلى عيادة صحية قريبة، وقال الأطباء إن مستوى السكر في دمي انخفض بشكل خطير لأنني لم أكن أتناول طعامًا كافياً".
كانت عائلتها تعتمد على الزراعة وتربية الماشية، لكن الجيش الإسرائيلي دمّر أراضيهم ومزروعاتهم ونفقت جميع الماعز، فابنها بلال، 20 عامًا، أب لثلاثة أطفال، حاول ثلاث مرات التوجه إلى ممر نتساريم للحصول على مساعدات، وفي إحدى المرات استولى قطاع طرق على كيس دقيق كان قد حصل عليه تحت تهديد السلاح.
وصف الجوع في قطاع غزة أصبح مروعًا تحت حصار مستمر، إذ يطارد الجوع والموت الكبار والصغار، وسط صمت دولي وتفاقم الوضع الإنساني، حيث نقل التقرير تفاصيل دقيقة لمعاناة أُسر كاملة تواجه الجوع والمرض والتشريد، مؤكدًا أن الأمل الوحيد في النجاة يتمثل في كسر الحصار فورًا والسماح بدخول الإمدادات الأساسية، قبل أن يفنى سكان القطاع جوعًا.