"وردة صوت أحبه وما زلت، بعيدًا عن أنها حبيبتي، فهي من أحب الأصوات وأقربها فهمًا لما أريد أن أقوله، ومن أذكى الأصوات التي تستطيع توصيل ما أريده للناس. أضافت بوجودها للغناء العربي".. قد تكون هذه الكلمات التي وصف بها الملحن بليغ حمدي، المطربة وردة، التعبير الأدق عن موهبة النجمة الجزائرية التي تحل اليوم ذكرى ميلادها.
بهذا الوصف الدقيق، اختصر بليغ حمدي موهبة شريكته في الفن والحياة "وردة"، التي جمعته بها علاقة حب توجت بالزواج قبل أن يحدث الانفصال بينهما، وجمعتها شراكة فنية صنعت مجموعة من أبرز الأغنيات في تاريخ الموسيقى العربية.
ولم يرزق بليغ ووردة بأبناء، إذ لم توفق رغبتهما الشديدة في الإنجاب، كما كشفت وردة في أحد لقاءاتها الإعلامية، غير أن تعويض القدر جاء على هيئة تراث فني لا يقدر بثمن، وتركا لمكتبة الموسيقى العربية نحو 30 أغنية لا تزال خالدة حتى اليوم.
ومن أبرز تلك الأغنيات "العيون السود"، "أحبك فوق ما تتصور"، "ليالينا"، "خليك هنا"، "حكايتي مع الزمان"، "حنين"، "دندنة"، "لو سألوك"، "مسا النور والهنا"، "وحشتوني"، إضافة إلى أغنيات وطنية منها "والله يا مصر زمان"، "حلوة بلادي السمرا"، "عدنا إليك يا جزائرنا الحبيبة".
اللقاء الأول
بدأت وردة الغناء في عمر 11 عامًا بباريس، حيث ولدت لأب فرنسي وأم لبنانية، ثم سافرت إلى بلاد والدتها لتقدم العديد من الأغنيات، أبرزها "جميلة" التي لاقت انتشارًا واسعًا، لكن الحلم الحقيقي كان مصر، حيث ستتخذ أولى خطواتها الفنية وسط عمالقة الطرب.
ولم تكن وردة تتخيل أن الموسيقار بليغ حمدي الذي تعلقت بألحانه للمرة الأولى بعدما سمعت أغنية "تخونوه" للمطرب عبدالحليم حافظ في فيلم "الوسادة الخالية"، سيكون أول ملحن مصري تتعاون معه، فبعدما جاءت إلى القاهرة بدعوة من المخرج حلمي رفلة، لتقف أمام الكاميرا في أول أفلامها "ألمظ وعبده الحامولي" عام 1962، التقت بليغ لأول مرة في بيت الموسيقار محمد فوزي، وبدأ التعاون الأول بينهما في أغنية "يا نخلتين في العلالي".
ومنذ تلك اللحظة، لم يكن اللقاء عابرًا، بل نشأت علاقة جمعت بين حب حقيقي وحس موسيقي فريد، وشراكة فنية ميزت تاريخ المطربة الجزائرية، التي استحقت لقب "أميرة الطرب العربي".
رسائل غير مباشرة
وردة لم تُخفِ أن بعض الأغنيات التي لحنها بليغ لغيرها من المطربات، كانت في الأصل رسائل حب لها، منها "بعيد عنك"، و"أنساك" لكوكب الشرق أم كلثوم، حسبما قالت وردة في لقاء تلفزيوني.
وتكشف وردة أيضًا أن أغنية "العيون السود" التي غنتها كان مطلعها الذي يقول "وعملت إيه فينا السنين"، يحمل رسالة حب من بليغ لها، مشيرة إلى أنه كتب الكثير من كلماتها بنفسه وأكملها الشاعر محمد حمزة، خاصة أن بليغ لم يكن يكتفي بالتلحين، بل شارك في صياغة كلمات بعض أغنياتها.
أغنية "العيون السود" تُعد اختصارًا للعلاقة القوية والمضطربة بين بليغ ووردة، إذ تزوجت الأخيرة من الضابط الجزائري جمال قصيري وكيل وزارة التجارة الخارجية عام 1962، وابتعدت وردة عن الغناء لفترة، متفرغة لمنزلها ورعاية أبنائها رياض ووداد، إلى أن طلب منها الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين إحياء احتفالات الذكرى العاشرة لاستقلال الجزائر عام 1972، فعادت إلى الساحة بأغنية "عدنا إليك يا جزائرنا الحبيبة"، من كلمات صالح خرفي وألحان بليغ حمدي، الذي كان حاضرًا مجددًا في نقطة تحول كبرى خلال مشوارها.
ووقع الطلاق بين وردة وقصيري، وعادت إلى الغناء مجددًا، لتكون العودة متطابقة مع البداية بأغنية "العيون السود"، وتنطلق مرة أخرى إلى عالم الأضواء، وأيضًا تنهال عليها العروض السينمائية، لتتصدر بطولة أفلام منها "حكايتي مع الزمان"، و"صوت الحب".
وفي منتصف السبعينيات كانت وردة على وشك بطولة فيلم "بعيدًا عن الأرض" عن قصة للكاتب إحسان عبدالقدوس، في أول تعاون فني يجمع بينهما، قبل أن تذهب البطولة إلى نجوى إبراهيم. إلا أن القدر عوضها بفيلم آخر عن رواية لعبدالقدوس أيضًا، وهو "آه يا ليل يا زمن"، الذي جمعها برشدي أباظة وحقق نجاحًا كبيرًا عند عرضه عام 1977، واشتهرت أغنياته خاصة "ليالينا"، التي صارت من أشهر ما غنت.
تعاون مع الكبار
خلال مسيرتها، تعاونت وردة مع موسيقيين كبار منهم محمد عبدالوهاب في "في يوم وليلة"، ورياض السنباطي في "لعبة الأيام"، وغيرهما، لكنها كانت دائمًا تؤكد أن بليغ حمدي الأقرب إلى صوتها وروحها، وكان كما قالت "يُفصل اللحن على مقاس صوتها"، بل وصفته بأنه "أصدق ملحن بعد محمد عبدالوهاب"، واعتبرت العمل معه حالة وجدانية نادرة لا تتكرر، لتكون الأغنيات التي جمعت بين الاثنين نموذجًا شاهدًا على أنه في حياة الفنانين، تظل بعض اللقاءات مصيرية، تغير مسار الموهبة وتفتح أبوابًا من التألق لم تكن متواجدة لولا حضور الطرف الآخر.