تُمثل العلاقات الثقافية الجسر الواصل بين الدول وبعضها، عبر تنمية الشعور الشعبي، وهو ما يُسهم بدوره بشكلٍ مباشر في تنمية العلاقات على كافة مستوياتها سواءً السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية. في هذا السياق، تأتي مشاركة الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، في احتفالات الهند بيوم الجمهورية، كضيف شرف رئيسي تجسيدًا لهذا الشعور؛ حيث تأسست العلاقات الثقافية بين البلدين على أسس التفاهم ومد جسور التعاون والصداقة. ونحلل في هذا التقرير العلاقات الثقافية بين القاهرة ونيودلهي، ومؤشرات تعاظمها وانعكاساتها على كافة المستويات لا سيَّما المستوى الاقتصادي.
جذور العلاقات:
تضرب العلاقات الثقافية بين مصر والهند في جذور التاريخ؛ إذ كان دعم هذه العلاقات تأكيدًا للتفاهم والتنسيق بين الجانبين في كافة القضايا الإقليمية والدولية، ونبرز فيما يلي مؤشرات ذلك:
(*) تأسيس جمعية الصداقة المصرية الهندية: تأسست جمعية الصداقة بين البلدين منذ عام 1952، وذلك لتأكيد أواصر العلاقات والأخوة بين الشعبين؛ حيث اشترك البلدان في رؤية العالم الذي طغى عليه المناخ الاستقطابي في ذلك الوقت، وهو ما أسهم في تأسيس حركة عدم الانحياز عام 1955 بجهودٍ شخصية من زعيمي البلدين وقتها جمال عبد الناصر وجواهر لال نهرو. تبرز أهمية هذه الجمعية كونها غير حكومية وتطوعية، وهو ما يدعم في تعميق التفاعل بين الشعبين المصري والهندي. وتأسست الجمعية لدعم التبادل الثقافي بين البلدين بما في ذلك تبادل الزيارات، وتبادل الكتب والإحصاءات، والعلماء، والمنح الدراسية خاصة ما يتعلق بتدريس اللغة.
(*) التبادل التعليمي والمنح الدراسية: تقدم الحكومة الهندية العديد من المنح الدراسية للباحثين المصريين، وقد وصل عدد هذه المنح وفق خطاب موجه إلى جامعة القاهرة في نوفمبر 2019 إلى 27 منحة لطلاب الدراسات العليا، وذلك في تخصصات العلوم الطبيعية، مُقدمة من المجلس الهندي للعلاقات الثقافية، بالإضافة إلى 110 منح دراسية سنويًا في إطار برنامج التعاون الفني والاقتصادي الهندي (آيتك). تجدر الإشارة إلى أن جمهورية الهند من الدول المتقدمة في مجال علم البيانات والبرمجة، وتعتبر معاهد الهند التكنولوجية والمعروفة(Indian Institute of Technology) أساس قوة الهند التكنولوجية؛ حيث يتخرج من هذه المعاهد مئات الآلاف من المهندسين الذين يحتلون مواقع مرموقة في كبرى شركات صناعة البرمجة العالمية مثل ميكروسوفت وآي بي إم وإنتل وأوراكل. ويُمكن لمصر الاستفادة من الخبرة الهندية في هذا الجانب، لا سيَّما أن هذه الخطوات تتوافق مع التوجه نحو الرقمنة وتعزيز مفاهيم الأمن السيبراني، الذي يتزامن مع تأسيس الجمهورية الجديدة التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي ورقمنة الخدمات.
(*) إقامة البرامج الثقافية: تُمثل مسألة إقامة البرامج والندوات الثقافية بين مصر والهند فرصة للالتقاء الفكري بين قوى البلدين الناعمة؛ إذ تُقام الكرنفالات الثقافية والتي تشتمل على مهرجانات للأفلام، والسينما، والمسرح، والرقص والموسيقى بالإضافة إلى إقامة المعارض الدورية للحضارة المصرية القديمة في الهند. في هذا السياق، فإن المركز الثقافي الهندي في القاهرة"مولانا أبو الكلام أزاد"، والذي تأسس عام 1992، حظي بصيتِ واسع، خاصة فيما يتعلق بتنظيم دورات تعليم اللغة الهندية، ورياضة اليوجا. وقد حرصت الحكومة المصرية على مشاركة الشباب الهندي بشكلِ دوري في منتدى شباب العالم، وذلك لتعزيز أواصر التعاون والحوار بين شباب العالم والشباب المصري.
(*) إنشاء مراكز مشتركة لدراسة الثقافات: امتدَّ التعاون المصري الهندي إلى اتفاق وزارتي التعليم في البلدين لتأسيس مراكز متخصصة للدراسات المصرية في الجامعات الهندية، ومراكز متخصصة للدراسات الهندية في الجامعات المصرية. ويستضيف مركز الطفل للحضارة والإبداع مهرجان "لمحات من الهند" منذ حوالي اثني عشر عامًا، وهو بمثابة مهرجان شعبي للتعريف بالثقافة الهندية. وأسست الجامعات المصرية أقسامًا لدراسة اللغة الأردية، وهي إحدى لغات الهند كما أدخلت جامعة عين شمس في مصر الخط الديوناجري عام 2014 في قسم اللغات الشرقية. وأسست جامعة عين شمس المصرية أول كرسي أستاذية هندي في العالم العربي في أكتوبر 2016، وذلك بعد توقيع مذكرة تفاهم بين جامعة عين شمس والمجلس الهندي للعلاقات الثقافية. وبموجب هذا الاتفاق، استفاد طلاب كلية الحاسبات والمعلومات من الخبرة الأكاديمية الهندية في علم الأحياء الحاسوبي والمعلوماتية الحيوية، وهو تخصص تشتهر به الهند على مستوى العالم.
(*) شعبية الدراما والسينما الهندية: تكتسب الأعمال السينمائية والدرامية الهندية شعبية كبيرة في مصر؛ إذ تجد كثير من المصريين يحفظون أسماء أبرز أبطال السينما الهندية. ويدل ذلك على التقارب المزاجي للمواطن المصري والهندي. وتنتج السينما الهندية سنويًا حوالي 1000 عمل سينمائي، وبلغت مبيعات السينما الهندية مليار تذكرة تقريبًا في عام 2019. وكانت السينما الهندية ضيف شرف مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عام 2009. يُبرز هذا التشابك مدى التشابه بين القاهرة نيودلهي فيما يتعلق بالقوة الناعمة؛ حيث أُطلق على القاهرة هوليود الشرق في إشارة إلى شهرتها الكبيرة في الإنتاج السينمائي والدرامي.
انعكاسات إيجابية:
يُمثل التعاون الثقافي بين مصر والهند تجسيدًا لمد جسور التواصل بين حضارتين عظيمتين، وقد انعكس هذا التقارب إيجابًا على جوانب أخرى متصلة، نذكر أبرزها فيما يلي:
(*) الترويج السياحي: مثَّل التقارب الثقافي والشعبي بين الثقافتين المصرية والهندية، فرصة في أن تصبح مصر سوقًا سياحية واعدة بالنسبة للسياح الهنود، خاصة أن القاهرة قدمت حزمة من المحفزات لجذب السياحة الهندية مثل تسهيلات في التأشيرات تتضمن القدرة على استخراج الفيزا إلكترونيًا، وكذلك القدرة على استخراجها فور الوصول من المنافذ المصرية. وعملت وزارة السياحة والآثار على المشاركة في العديد من المعارض والقوافل السياحية بالهند كطريقة للتوسع في استقطاب السياحة الهندية، ونجحت الوزارة كذلك في استقطاب سياحة حفلات الزفاف، وكانت الرحلة القادمة من مطار أحمد أباد في الهند أولى هذه التجارب التي استضافتها مدينة شرم الشيخ الساحلية.
(*) ترميم المساجد الأثرية: ساهم التقارب الثقافي بين مصر والهند في بناء علاقات استراتيجية بين مصر وطائفة البهرة الهندية؛ حيث أسهمت الطائفة بترميم العديد من المساجد الأثرية، ومساجد آل البيت مثل مسجد السيدة نفيسة، ومسجد السيدة زينب، ومسجد سيدنا الحسين بالإضافة إلى تبرع سلطان الطائفة مفضل سيف الدين لصالح صندوق تحيا مصر في أغسطس 2018 بمبلغ 10 ملايين جنيه مصري وفق موقع هيئة الاستعلامات الرسمية بمصر.
(*) زيادة التبادل التجاري: ساهم التواصل الشعبي والثقافي بين القاهرة ونيودلهي في تعزيز التبادل التجاري بين الجانبين؛ إذ وصل حجم التبادل التجاري غير البترولي إلى 4.1 مليار دولار خلال الـ 11 شهرًا الأولى من عام 2022، وذلك وفق تصريحات وزير التجارة والصناعة المصري المهندس أحمد سمير. ومن المتوقع أن يصل حجم التبادل التجاري بين البلدين خلال الخمس سنوات القادمة إلى 12 مليار دولار. ويبلع حجم الاستثمار الهندي في مصر 3.2 مليار دولار؛ تتركز في قطاعات الكيماويات والكربون والتعبئة والتغليف والمنتجات الغذائية والسياحة.
في الختام، تُمثل العلاقات المصرية الهندية امتدادًا لثقافة حضارتين كبيرتين لا سيَّما أن القاهرة ونيودلهي يجمعهما تاريخ مشترك منذ استقلال الهند وتأسيس حركة عدم الانحياز، إضافة إلى سيطرة الشباب على الشريحة السكانية لكلتا الدولتين. وقد صاحب إقامة العلاقات السياسية بين البلدين علاقات ثقافية بدأت بالتبادل الثقافي والطلابي وإقامة المهرجات والكرنفالات الفنية وامتدت آثارها إلى استساغة الشعب المصري لسينما بوليود الهندية وكذا الأطعمة والمطبخ؛ حيث يكتسب المطبخ الهندي شهرة واسعة بين الأوساط الشعبية المصرية التي تتفنن في استخدام البهارات، وكل ذلك أسهم إيجابًا في التواصل بين الشعبين ودعم العلاقات.