في الحروب الحديثة، لا تُطلق كل الطلقات من فوهة بندقية، بعضها يصدر من خلف المكاتب وصالات المؤتمرات، وبعضها يُنسج في التصريحات المتضاربة والتلميحات الدبلوماسية، وبينما كانت الصواريخ والقنابل الإسرائيلية تنهال على المنشآت الإيرانية، كانت تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تتأرجح بين دعوات السلام ووعود الدعم الكامل لإسرائيل، في مشهد أثار تساؤلات حادة.. هل اكتفت واشنطن بدور المراقب؟.. أم أنها الراعي الخفي للهجوم الإسرائيلي الأوسع منذ عقود؟
ترامب بين الوسيط والداعم العسكري
في سلسلة تصريحات متسارعة، بدا أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يحاول لعب أدوار متعددة في آن واحد، فتارة يعرض وساطة سلام بمساعدة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وتارة أخرى يلوّح بمساندة إسرائيل من أجل القضاء على البرنامج النووي الإيراني، مؤكدًا أن الولايات المتحدة ستواصل دعم إسرائيل في الدفاع عن نفسها.
وتحت هذه الازدواجية، بدا أن واشنطن ترسل رسائل متناقضة بين تهدئة دبلوماسية من جهة، وتحريض ضمني من جهة أخرى، فهل كانت تلك التصريحات مجرد كلمات أم غطاء لتورط فعلي؟
اتصالات الكواليس
المصادر الأمريكية نفسها لم تُنكر وجود تواصل مكثّف بين واشنطن وتل أبيب منذ بدء العمليات، بل أكدت شبكات أمريكية كبرى أن "ترامب" رفض فقط خطة إسرائيلية لاغتيال المرشد الإيراني علي خامنئي، لكنه لم يعارض الضربات التي طالت العمق الإيراني.
وقال مسؤول أمريكي كبير رفض ذكر اسمه لوكالة رويترز: "لم يقتل أي أمريكي بعد.. لذا لا حاجة لاستهداف القيادة الإيرانية الآن"، وهو تصريح فتح الباب أمام تكهنات بأن "المساحة المتروكة" كانت متعمدة لإسرائيل، شرط ألا تحرج واشنطن بشكل مباشر.
وهو ما أكدته التصريحات الأخيرة لرئيس الوزراء الإسرائيلي، اليوم الاثنين، عندما أكد أنه يتواصل مع الرئيس ترامب مثمنًا المساعدة التي قدمها لإسرائيل.
صانع الصفقات
ترامب، الذي اعتاد لعب دور صانع الصفقات، ظهر في أكثر من مناسبة داعيًا إلى التهدئة والعودة إلى طاولة المفاوضات، قائلًا: "إيران لن تكسب هذه الحرب، ويجب عليها البدء بالحوار قبل فوات الأوان"، مؤكدًا أن "الولايات المتحدة ليست متورطة في الصراع بين إيران وإسرائيل".
لكن دعوته للسلام لم تخل من التلويح بالقوة، إذ قال صراحة: "من الممكن أن نتدخل لمساعدة إسرائيل في القضاء على البرنامج النووي الإيراني"، مضيفًا أن الوقت يضيق أمام طهران لعقد اتفاق "مقبول من الطرفين".
اتهامات إيرانية صريحة
وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي لم يتردد في تحميل أمريكا مسؤولية مباشرة، مؤكدًا أن "تشجيع واشنطن وأوروبا للعدوان الإسرائيلي خطأ تاريخي"، وأن "الولايات المتحدة تعيق مجلس الأمن عن اتخاذ إجراء ضد الاعتداءات".
كما طالب "العراقجي" الوكالة الدولية للطاقة الذرية بإدانة الهجمات الإسرائيلية على منشآت نووية إيرانية، محذرًا من أن الصمت الدولي سيفسر كضوء أخضر لمزيد من التصعيد.
روسيا.. وساطة أمريكية أم بالوكالة؟
اللافت أن إعلان الكرملين اتصال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنظيره الروسي ببوتين تضمن طلبًا أمريكيًا باستئناف الحوار مع الإيرانيين، وهو ما يفتح أيضًا تساؤلات هل واشنطن فعلًا تجهّز لمفاوضات؟.. أم أنها فقط تناور لتجنب اتهام مباشر بالتورط في ضربات عسكرية قاسية؟
بين الدعوات للسلام والحديث عن "إيران الخاسرة" والزعم بأن إسرائيل على طريق النصر، والدعم المفتوح لإسرائيل مع رفض تنفيذ عملية اغتيال رمزية، يظهر أن الدور الأمريكي في الأزمة الراهنة ليس حياديًا كما تحاول واشنطن الإيحاء، فالوقائع الميدانية والتصريحات المزدوجة تضع الإدارة الأمريكية في قلب دائرة الاتهام، ليس فقط كشريك ضمني في الهجوم، بل كمهندس محتمل لمعادلة جديدة في الشرق الأوسط، قد تبدأ بصاروخ ولا تنتهي إلا باتفاق نووي أو مواجهة إقليمية شاملة.