في قرية الطيرة داخل إسرائيل، قرب منزلها الذي لم يعد يرحب بضحكتها أو خطواتها، أُسكت صوت الناشطة الفلسطينية سوزان عبدالقادر برصاصات قاتلة، لتنضم إلى ركب الشهداء من عرب إسرائيل الفلسطينيين الذين طالما رفعت لأجلهم نعوش رمزية في مسيرات الاحتجاج، إذ تحولت سوزان من ناشطة ضد العنف إلى رقم في لائحة موت لا تتوقف من التمدد.
ومع كل جريمة جديدة في أوساط الفلسطينيين بالداخل الإسرائيلي، تثار احتمالات رعاية الجريمة كمشروع استراتيجي إسرائيلي موجه ضد العرب في الداخل الإسرائيلي، مع العنف المنتشر في البلدات العربية، أو سياسة مدروسة لهندسة "الرحيل الصامت"، إذ تسلط مجلة "+972" الإسرائيلية الضوء على واقع مأساوي تترجمه الأرقام، والدماء، والصمت المتعمد.
من قائدة احتجاج إلى ضحية
في 29 أبريل 2024، قُتلت سوزان عبدالقادر، الناشطة المجتمعية والأم لثلاثة أطفال، بالرصاص داخل سيارتها أمام منزلها في مدينة الطيرة داخل إسرائيل، في عملية إعدام ميداني برصاصات مصوبة بدقة إلى منطقة قاتلة في جسدها. وقال زوجها، زياد بشارة، وفق مجلة "+972": "نصب لها المسلح كمينًا، اقترب من سيارتها، وأطلق النار عليها أثناء عودتها إلى المنزل".
وشاركت سوزان في "مسيرة الموتى" عام 2023 في تل أبيب، احتجاجًا على تصاعد العنف في المجتمع الفلسطيني داخل إسرائيل، وبعد عام فقط، أصبحت واحدة من القتلى الذين كانت تدافع عنهم. وفي الشهر الذي أعقب مقتلها، قُتل 7 فلسطينيين آخرين في الداخل، ليرتفع عدد ضحايا الجريمة إلى 230 فلسطينيًا عام 2024، بحسب معطيات رصدتها منظمة "مبادرات إبراهيم"، بزيادة كارثية عن 116 ضحية عام 2022.
جريمة منظمة بأذرع عسكرية
يرى الناشط السياسي أمير مخول أن ما يحدث ليس مجرد تدهور أمني عابر، فيقول وفق "+972": "لدينا تنظيم إجرامي مسلح جيدًا، يشبه الجيوش الصغيرة، بمئات، بل آلاف، من الشباب الإسرائيليين من داخل الخط الأخضر أو من الضفة الغربية، يتصرفون بشكل منظم جدًا".
هذه العصابات استفادت من تدفق الأسلحة بعد أحداث 7 أكتوبر، ومن السياسات الحكومية التي توسع امتلاك السلاح، بينما تغض الشرطة الطرف. لم تسلم أي مدينة أو قرية عربية في الداخل من هذا العنف، فيقول مخول: "إنها منظومة اقتصادية متكاملة تُدرّ المليارات عبر الابتزاز والسيطرة على عقود البلديات والشركات. إنها ليست أحداثًا عشوائية، بل بنية متماسكة ومدروسة".
وتتصاعد رغبة الفلسطينيين داخل إسرائيل بالهجرة، إذ انتشرت مجموعات عبر فيسبوك مليئة بالاستفسارات حول مغادرة إسرائيل. فيقول مخول: "هذه ليست مصادفة، إنها سياسة مقصودة لدفع الفلسطينيين نحو الهروب".
ويضيف: "الجريمة مشروع استراتيجي للدولة، والهدف هو دفع الفلسطينيين إلى الهجرة الطوعية. إنها سياسة تشمل غزة، والضفة، وداخل الخط الأخضر، والشباب المتعلمون، والأطباء، والمبرمجون، كلهم يُدفعون نحو الخارج".
التخلص من العرب
حتى الميزانيات المخصصة لمكافحة الجريمة تُستخدم، كما يقول "مخول"، لقمع النشطاء الذين يحاولون بالفعل وقفها، ويُستشهد بحالات مثل رجا إغبارية، المعتقل إداريًا، وحظر "لجنة نشر السلام"، التي كانت تعمل ضمن لجنة المتابعة العليا للمواطنين العرب.
الناشط غسان منير، أحد أعضاء اللجنة، قال وفق "+972" إن الشاباك استدعاه وطلب منه وقف نشاطه، "بدلًا من ملاحقة المجرمين، يلاحقون من يحاولون حل المشاكل. هكذا يُفكك المجتمع".
وفي مدينتي الرملة واللد المحتلتين، اللتين تشهدان ارتفاعًا حادًا في الجريمة، سقط أربعة من عائلة الشمالي وحدها في جرائم قتل متكررة. رئيس بلدية اللد نفسه، يائير رفيفو من حزب الليكود، اتهم الحكومة صراحة بالسماح باستمرار الجريمة لـ"التخلص من العرب".
تفكيك المجتمع العربي
انتشر مؤخرًا منشور مجهول المصدر على وسائل التواصل، يتهم إسرائيل باستخدام الجريمة المنظمة كجزء من "سياسة تهجير منظمة". يقول المنشور: "إن المرحلة الأولى هي القضاء على شعور الأمان الشخصي واستبداله بالخوف الوجودي، ما يؤدي إلى انهيار الطبقة الوسطى في المجتمع العربي".
ويشير المنشور إلى ابتزازات مالية تُفرض على القرى، وإجبارها على دفع "رسوم حماية"، ما يؤدي إلى مغادرة الأهالي قراهم. ويضيف: "هذه عملية ممنهجة تهدف إلى القضاء على القدرة الاقتصادية للعرب، واستنزاف طبقتهم المنتجة".
ويُسمي المنشور وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن جفير كأحد مهندسي هذا التصعيد، قائلًا: "كل قطرة دم تُسفك تُعدّ نجاحًا له، لا فشلًا. لا هو، ولا نتنياهو، ولا الجمهور اليهودي في إسرائيل منزعجون من الأرقام؛ لأنها تعني أن الخطة تسير كما هو مخطط لها".
تقول نبال أردات، منسقة السياسات في مركز "مساواة"، وفق "+972": "هذا ليس إهمالًا من الشرطة أو خللًا في النظام، بل سياسة ممنهجة تمس كل جوانب الحياة".
قدّمت "أردات" التماسًا إلى المحكمة العليا ضد ديوان الخدمة المدنية، الذي لا يضم سوى 2% من الفلسطينيين رغم الالتزام بتمثيلهم، وتضيف: "عندما يُضاف إلى ذلك خفض التوظيف، وتضييق الميزانيات، والقيود المؤسسية، والقمع السياسي، يظهر أن الجريمة جزء من سياسة إقصاء كاملة".
وتستشهد بتعيين المحامي روي كحلون، الذي فشل سابقًا في قيادة فريق مكافحة الجريمة، كمفوض للخدمة المدنية. "هكذا يتعامل النظام مع المواطنين العرب كما لو أنهم غير مرئيين".
صمت الشارع
أشارت المحامية راوية حندقلو، مديرة مركز الطوارئ لمكافحة الجريمة والعنف، إلى أن الشرطة فشلت في حل 85% من جرائم القتل في المجتمع العربي، بينما تتراكم المشكلات بلا حلول. "ليس هناك ما يُشير إلى نية جادة لإنهاء هذا الوضع".
والنتيجة، بحسب منير، أن الشارع العربي بات في حالة من الانكسار، لم تعد هناك احتجاجات جماهيرية ولا مطالب جماعية، لقد نجحت الخطة، على ما يبدو، في إخماد الصوت الفلسطيني داخل إسرائيل، بالرصاص والخوف، وبسياسات تُدار خلف الكواليس.