يواجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون معضلة دستورية تمنعه من الترشح لولاية ثالثة، ما يجعله مراقِبًا عاجزًا لصراع الخلافة المحتدم داخل معسكره السياسي.
وبحسب صحيفة "لوفيجارو" الفرنسية، يتسابق المرشحون المحتملون لخلافة ماكرون لإظهار الاختلاف عن سياساته، بينما تتراجع مكانته السياسية وسط تحديات داخلية وخارجية متزايدة.
إحباط وتراجع نفوذ
كشفت "لوفيجارو" عن أن ماكرون، الذي سيبلغ 49 عامًا في 2027، يعيش حالة إحباط شديدة بسبب منعه دستوريًا من خوض انتخابات رئاسية ثالثة.
وبحسب مستشار مقرب منه، يردد "ماكرون" باستمرار عبارة: "هل تتصورون؟ رئيس المجلس العام يمكنه أن يحكم أكثر من ولايتين، لكن رئيس الجمهورية لا"، في إشارة إلى أن القادة المحليين بالمجلس العام يُنتخبون لمدة 6 سنوات ويمكن إعادة انتخابهم بلا حدود، بينما رئيس الجمهورية محدود بولايتين فقط.
ووصف ماكرون في 2023، خلال نقاش مع قادة أحزاب المعارضة، منع الرئيس من أداء أكثر من ولايتين متتاليتين بأنه "حماقة مشؤومة".
هذا الوضع الدستوري يجبر ماكرون على مراقبة المتنافسين من معسكره وهم يتصارعون على خلافته لمدة عامين كاملين، في الوقت الذي لم يعد فيه محور الحديث في "الكتلة الوسطية" والتحالف الهشّ الذي يدعم حكومة فرانسوا بايرو.
وعندما أعلنت المتحدثة الحكومية صوفي بريماس، المنتمية لحزب الجمهوريين، الأسبوع الماضي، أن "الماكرونية ستبدأ في نهايتها خلال الأشهر المقبلة مع انتهاء الولاية الثانية للرئيس ماكرون"، لم تُثِر إلا رد فعل خفيفًا من أنصار الرئيس.
وأيضًا علقت إحدى الوزيرات بالحكومة لـ"لوفيجارو": "لم نكن كثيرين في الدفاع عنه".
يعتمد ماكرون على نشاطه الدولي لتجنب التهميش أمام الرأي العام، محرومًا من أي أغلبية برلمانية منذ الانتخابات التشريعية التي تلت حل البرلمان.
ورغم تحسن طفيف في استطلاعات الرأي مؤخرًا، فإن أي حادث بسيط يمكن أن يفسد جهوده، كما حدث مع الفيديو الذي انتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي والذي ظهرت فيه زوجته بريجيت وهي تصفعه ظاهريًا قبل نزولهما من الطائرة الرئاسية في فيتنام، الاثنين الماضي، ما اضطره لنفي أي "مشاجرة زوجية" واستنكر "المهووسين" الذين يستخلصون استنتاجات من هذه الصور، ما أفسد عملية التواصل حول جولته الآسيوية.
الاختلاف عن الماكرونية
وفي سياق متصل، وضع الفوز الكبير في رئاسة حزب الجمهوريين في 18 مايو، وزير الداخلية برونو ريتايو، مرشحًا محتملًا قويًا لفصيله السياسي الوسطي في انتخابات 2027.
وأظهر استطلاع أجرته "لوفيجارو" و"راديو سود" حصوله على 16% من نوايا التصويت، في المركز الثالث خلف جوردان بارديلا من التجمع الوطني اليميني (31%) ورئيس وزراء فرنسا الأسبق إدوارد فيليب (21%).
النجاح المتصاعد لـ"ريتايو" أحدث تأثيرًا جانبيًا مهمًا، إذ بات النقاش في "الكتلة الوسطية" يدور حول الحزم الذي يظهره وزير الداخلية في مواجهة انعدام الأمن والهجرة، ما دفع المرشحين المحتملين الآخرين لتكثيف محاولات الاختلاف عن الرئيس الحالي.
ويتوقع مراقب سياسي مقرب من ماكرون أن "رغبة التغيير والقطيعة من جانب الناخبين ستكون قوية في 2027، بعد عشر سنوات من الماكرونية"، مضيفًا "العام المقبل سيكون حاسمًا للجميع".
أتال يثير الجدل
استجاب رئيس الوزراء السابق جابرييل أتال، الذي لا يشك أحد في طموحاته الرئاسية داخل معسكر ماكرون، للضغوط المتصاعدة من خلال الكشف عن سلسلة من المقترحات، الاثنين الماضي، بنبرة أقل اعتدالًا بكثير من الخطاب الماكروني التقليدي، بما في ذلك منع ارتداء الحجاب للفتيات تحت سن 15 عامًا.
هذا التوجه أثار انتقادات حادة داخل حزب "النهضة" الرئاسي، إذ قال نائب مقرب من الإليزيه لـ"لوفيجارو": "جابرييل وقع في فخ ريتايو، خوفًا من أن يبدو ضعيفًا ومترهلًا، لكن نصف نواب المجموعة يعارضون هذا تمامًا، والأمر لا يمر بسهولة بين ناشطينا".
هذه المناورة تثير تساؤلات حول الهوية السياسية لرئيس الوزراء السابق، خاصة أن اليمين يلومه على موقفه "الجمهوري" ضد التجمع الوطني الصيف الماضي، إذ دعا أتال حينها لمنع وصول اليمين المتطرف للسلطة حتى لو تطلب ذلك التصويت لمرشحي حزب "فرنسا الأبية" اليساري المتطرف بزعامة جان لوك ميلانشون.
ولمواجهة منافسة ريتايو المتشدد، بدأ أتال يتبنى مواقف مماثلة، ما ترك حلفاؤه في حيرة من أمرهم، كما يسخر أفراد من محيط ماكرون قائلين: "لم نعد نعرف أين يسكن سياسيًا"، أي أنهم لا يعرفون موقعه الحقيقي على الخريطة السياسية بين الاعتدال والتشدد.
فيليب يتقدم بحذر
من جهته، شدد إدوار فيليب، المرشح المعلن الوحيد رسميًا في المساحة الرابطة بين اليمين ومعسكر ماكرون، خطابه أيضًا ضد الجريمة واختلالات العدالة، كما لا يخطط لكشف برنامجه المفصل قبل انتهاء الانتخابات البلدية في ربيع 2026، رغم أنه سيصدر في 4 يونيو كتابًا بعنوان "ثمن أكاذيبنا".
كل مرشح يتقدم في مساره الخاص، في مشهد يتفق الجميع على اعتباره متغيرًا باستمرار، ولا يستبعد البعض في الماكرونية ظهور مرشح مفاجئ غير معروف حاليًا، كما حدث مع ماكرون نفسه في 2016-2017.
هيمنة اليمين المتطرف
تتزايد الدعوات لعدم الإكثار من المرشحين في الدور الأول من انتخابات 2027، وقال هيرفي مارسيي، رئيس المجموعة الوسطية في مجلس الشيوخ، لـ"لوفيجارو": "باستثناء حادث صناعي لهم، يبدو التجمع الوطني متأكدًا من الوصول للدور الثاني، مَن سيواجههم؟ يجب أن نتفق على مرشح واحد، اثنان على الأكثر".
والمقصود بـ"الحادث الصناعي" هو كارثة غير متوقعة مثل فضيحة كبيرة قد تدمر حظوظ التجمع الوطني، فحسب النظام الانتخابي الفرنسي، إذا لم يحصل أي مرشح على 50% في الدور الأول، يتأهل المرشحان الأول والثاني للدور الثاني، والاستطلاعات تشير إلى أن تأهل التجمع الوطني شبه المؤكد.
الهاجس الأكبر للكتلة الوسطية هو دور ثان يواجه فيه التجمع الوطني اليميني المتطرف بزعامة مارين لوبان أو جوردان بارديلا، حزب "فرنسا الأبية" اليساري المتطرف بزعامة جان لوك ميلانشون، ما يترك التيار الوسطي خارج المعادلة تمامًا ويضع الناخبين أمام خيار بين المتطرفين.
يتفق العديد من المقربين من ماكرون على أن أسوأ سيناريو هو انتصار التجمع الوطني في 2027، كما عبر أحد الشخصيات المقربة من الإليزيه لـ"لوفيجارو": "تخيلوا إذا انتهت 10 سنوات من ماكرون بوصول لوبان أو بارديلا للسلطة؟".
في خضم حرب الخلافة هذه، تشير الصحيفة الفرنسية إلى أن ماكرون لا يعطي أي إشارات تفضيل، بينما يُسمع في الإليزيه أن "الرئيس لم يختر خليفة له قط"، كما أن الجميع واعٍ أن أي مرشح محتمل لا يسعى للحصول على بركة رئاسية تُعتبر "قبلة الموت"، إلا أن ماكرون يحتفظ بـ"قوة إضرار" كما يشير وزير سابق، نقلت عنه "لوفيجارو".
أما بخصوص استمرارية "الكتلة الوسطية" التي أوجدها ماكرون، فلا يزال الرئيس يستطيع الاعتماد على بعض المدافعين مثل أورور بيرجيه، الوزيرة المفوضة للمساواة بين الجنسين والمؤيدة له منذ 2017، والتي تقول: "لا أؤمن بنهاية الماكرونية، هذا التيار يحمل مجموعة أيديولوجية ستبقى، والكلمة التي تهم أكثر وتطغى على كل الأخريات هي كلمة الرئيس".