عندما أدان وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي الإجراءات "الفظيعة" التي ترتكبها إسرائيل في غزة والمعاناة "المروعة" التي يعيشها الفلسطينيون العاديون، بدا وكأنه شخص كان يتوق منذ أشهر إلى التعبير عن رأيه الحقيقي؛ وهذا ما أثار دهشة الغرب كثيرًا.
لكن في الواقع، أحد الأسباب التي جعلت بريطانيا تشعر فجأة بالحرية في التصرف ضد إسرائيل، وقيامها باستدعاء السفير وإنهاء المحادثات التجارية، أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أشار إلى "نفاد صبر أمريكا" تجاه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
وحسب ما نشرته صحيفة "ذا تليجراف" البريطانية، ففي الماضي، كانت الرغبة الغريزية لبريطانيا في تجنب أي قطيعة مفتوحة مع أمريكا سببًا في كثير من الأحيان في تثبيط استجابتها لإراقة الدماء في غزة.. "ولكن من خلال رفضه زيارة إسرائيل في أول رحلة له إلى الشرق الأوسط منذ عودته إلى البيت الأبيض، واتخاذه قرارات حاسمة تتعارض مع رغبات نتنياهو، فتح الرئيس ترامب الطريق أمام حلفاء أمريكا للثورة ضد السياسة الإسرائيلية".
تجاهل تل أبيب
يوم الثلاثاء، أفاد البيت الأبيض بأن ترامب يريد نهاية سريعة للحرب في غزة، وأبدى نائبه، جيه دي فانس، استياءه بإلغاء زيارة مقررة إلى إسرائيل.
ينقل تقرير "ذا تليجراف" عن ريتشارد هاس، الدبلوماسي الأمريكي والرئيس الفخري لمجلس العلاقات الخارجية، أن كل هذا يعكس حقيقةً بسيطةً حول موقف ترامب "أمريكا أولًا لا تعني بيبي (نتنياهو) أولًا"، وأضاف: "ترامب يتخذ قرارات مستقلةً تتعارض بشكلٍ متزايد مع التفضيلات الإسرائيلية".
مع هذا، فإن الخلافات بين ترامب ونتنياهو أعمق بكثير من الخلافات حول الزيارات الرسمية أو حتى الحرب في غزة، إذ يلفت التقرير البريطاني إلى أنه "بعد أن قرأ كل سيرة ذاتية لوينستون تشرشل -وهو إنجاز لا يكاد يكون من المؤكد أن ترامب لن يضاهيه- يعتقد نتنياهو أن مهمته الشخصية التي تشبه مهمة تشرشل هي منع إيران من الحصول على سلاح نووي".
لكن، بمجرد توليه الرئاسة، أوضح ترامب أنه لا يريد حروبًا جديدة في عهده. بدلًا من ذلك، أرسل ستيف ويتكوف، مبعوثه الشخصي، للتفاوض على اتفاق نووي جديد مع مبعوثي إيران. ومن وجهة نظر نتنياهو، فإن هذه الدبلوماسية تخاطر بإنتاج نسخة أخرى مما يعتبره "الاتفاق النووي المعيب" والذي وقّعته إدارة الرئيس أوباما في عام 2015.
وتلفت الصحيفة إلى أنه "بمحاولته التوصل إلى اتفاق نووي جديد مع إيران، وضع ترامب رئيس الوزراء الإسرائيلي في مأزق. فإما أن يشاهد نتنياهو محادثات الأمريكيين مع إيران ويتقبل احتمال إبرام اتفاق نووي جديد معيب كالاتفاق القديم، أو أن يشن هجومًا إسرائيليًا منفردًا على المنشآت النووية الإيرانية".
ولكن "في ظل التجاهل الذي أبداه ترامب (لنتياهو)، وتعرّضه للإدانة العلنية من بريطانيا ودول أوروبية أخرى بسبب حرب غزة، هناك همسات تشير إلى أن نتنياهو قد يختار الخيار الأخير ويستولي على المبادرة بشن ضربة مفاجئة على إيران".
ورغم ظهور تقارير عن عملية إسرائيلية وشيكة من هذا النوع بانتظام لأكثر من عقد من الزمن دون أن تتحقق. لكن إذا كانت سياسة ترامب تجاه إيران تُشكل أخطر المخاطر على إسرائيل، فإن قرارات أمريكية أخرى تُظهر استعدادًا بسيطًا لتجاهل نتنياهو.
بدا هذا عندما تعاملت أمريكا بشكل مستقل مع حماس لتأمين إطلاق سراح عيدان ألكسندر، وهو مواطن أمريكي إسرائيلي، احتُجز في غزة حتى 12 مايو. أيضًا، توصل ترامب إلى اتفاق لوقف إطلاق النار مع الحوثيين في اليمن مقابل تعليق الولايات المتحدة لحملة القصف. والأهم من ذلك، أن هذا الاتفاق لم يُلزم الحوثيين بوقف هجماتهم على إسرائيل.
في هذه الأثناء، رفع ترامب خلال زيارته إلى السعودية العقوبات الأمريكية على سوريا، والتقى أحمد الشرع، القائد السابق لفصيل مسلح أطاح بالأسد في ديسمبر الماضي، وتشير الصحيفة إلى أن نتنياهو يعتقد أن الشرع هو إسلامي غير قابل للإصلاح، وقد يكون على استعداد للسماح باستخدام الأراضي السورية لتهديد إسرائيل. ومن هنا جاءت الغارات الجوية الإسرائيلية المتكررة ضد سوريا".
والآن، بفضل ترامب، أصبح "الشرع" أول زعيم في التاريخ يتم رفع العقوبات الأمريكية عنه، وفي الوقت نفسه أصبح مستهدفًا من قِبل إسرائيل.
كراهية نتنياهو
رغم أن كل هذا يُظهر أن ترامب يعامل إسرائيل بنفس الاستخفاف الذي يعامل به أي حليف آخر، لكنه لا يعني أن ترامب قرر عمدًا قطع العلاقات مع إسرائيل، إذ تنقل "ذا تليجراف" عن ريتشارد هاس، الدبلوماسي الأمريكي: "ليس هذا شقاقًا، بل هو ببساطة سياسة خارجية أمريكية أكثر استقلالية في الشرق الأوسط، وأكثر استعدادًا للاختلاف عن التفضيلات الإسرائيلية".
وبغض النظر عن التسمية، فإن المراقبين في إسرائيل ليس لديهم شك في أن نهج ترامب يسبب قلقًا عميقًا لنتنياهو.
في البداية، كان نتنياهو من بين المحتفلين بعودة ترامب. خلال ولايته الأولى، فعل ترامب بالضبط ما أراده الإسرائيليين في أربعة جوانب حيوية، حيث ألغى الاتفاق النووي مع أوباما؛ ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس؛ واعترف بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان المحتلة؛ وتوسط في اتفاقيات أبراهام بين إسرائيل وأربع دول عربية.
لكن، يشير التقرير إلى أنه "إذا كان نتنياهو يعتقد أن ترامب سيكون متساهلًا بالقدر نفسه في فترة ولايته الثانية، فقد أخطأ بشدة في تقدير قوة علاقتهما".
حتى قبل عودته إلى البيت الأبيض، اتهم ترامب نتنياهو بجحوده الشديد لكل هذه النعم، وعبّر عن استيائه تحديدًا من تهنئة نتنياهو لبايدن بفوزه في انتخابات عام 2020.
"اذهب إلى الجحيم"، كانت هذه هي العبارة اللاذعة التي استخدمها ترامب لرفض نتنياهو، كما سجّلها باراك رافيد، الصحفي الإسرائيلي، في كتابه "سلام ترامب" الذي يوثق جهود الرئيس في صنع السلام خلال ولايته الأولى في عام 2021.
قال ترامب: "لم يقدم أحدٌ قطُّ لبيبي نتنياهو أكثر مما قدمتُ أنا له. لم يقدم أحدٌ قطُّ لإسرائيل أكثر مما قدمتُ أنا لها. وكان نتنياهو أول من توجه إلى جو بايدن وهنأه".
وعلى الرغم من أن نتنياهو لم يكن الأول، فإن ترامب ما زال يرفض سماع غير ذلك، وهو ما يظهر جليًا في كتاب رافيد أن عداء ترامب لرئيس وزراء إسرائيل يتجاوز هذه الضغينة البسيطة ليشمل نهج نتنياهو الكامل تجاه السلام مع الفلسطينيين.
يذكر "رافيد" في كتابه عن ترامب قوله: "رأيتُ ما كان يفعله. كان يُحرجهم. كما تعلمون، يجب أن نمنح الناس كرامتهم. وكان يسلبهم كرامتهم. لم يُرِد بيبي عقد صفقة".
مأزق الائتلاف
اليوم، أصبح نتنياهو أقل استعدادًا للتوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين، أو دعم الجهود الدبلوماسية مع إيران، أو إنهاء الحرب في غزة. ويعتمد مستقبله السياسي على بقاء ائتلافه مع أحزاب اليمين المتطرف الأكثر تشددًا في الكنيست الإسرائيلي.
وبينما لن يدخل أحد في ائتلاف مع نتنياهو سوى سموتريتش وبن جفير، اللذين يدركان أن رئيس الوزراء لا يملك خيارات أخرى، ما يًزيد من نفوذهما على السياسة، يُصرّ كلا التابعين المفترضين لنتنياهو على أن إسرائيل يجب أن تُواصل حربها في غزة؛ ونتنياهو ليس في وضع يسمح له بمقاومتهما.
أيضا، هناك عامل شخصيٌّ بالغ الأهمية يزيد من تعقيد مأزقه. حيث يُحاكم نتنياهو بتهم فسادٍ وخيانة الأمانة، وهي جرائمٌ قد تُعاقَب بالسجن "وإذا فكّك سموتريتش وبن جفير الائتلاف وأسقطاه، فسيكون نتنياهو، دون حماية مكتبه، أكثر عُرضةً للسجن في حال إدانته".