في ذكرى رحيله الرابعة التي تمر، اليوم الثلاثاء، لا يزال الفنان سمير غانم حاضرًا في وجدان محبيه، يتذكرون إفيهاته، وأعماله الفنية خفيفة الظل بتفاصيلها التي تحمل روحًا من شخصية النجم الراحل، الذي يُعد أيقونة الكوميديا الارتجالية التي لن تتكرر، وكان سباقًا بما يُعرف بفن "الستاند آب كوميدي" الذي يعتمد على وقوف ممثل على خشبة المسرح، ينتقد بطريقة ساخرة ويعلّق على الكثير من الموضوعات والقضايا.
كان سمير غانم يفعل ذلك كثيرًا في عروضه المسرحية، ومنها "المتزوجون"، "أهلًا يا دكتور" وغيرها من المسرحيات، وكان المؤلفون يتركون له مساحة حرة في النص المسرحي ليقول ما يريد، حسبما كشف خلال إحدى الندوات المؤلف أحمد الإبياري الذي تعاون معه في مسرحيات منها "دوري مي فاصوليا" و"مراتي زعيم عصابة"، ووصفه بأنه ملك الارتجال.
خلف ذلك الارتجال كان يقف فنان شديد الدقة في اختيار كل تفصيلة تخص عمله، بدءًا من الأزياء والإكسسوارات، وصولًا إلى الصوت والشكل الذي يظهر به على الشاشة، فخلف الضحكة الخفيفة والارتجال الساحر عقل فني منضبط لا يترك شيئًا للصدفة.
أسلوب بصري
منذ بداياته، صنع سمير غانم لنفسه أسلوبًا بصريًا فريدًا، وكثيرًا ما أثار ضحك جمهوره على خشبة المسرح أو شاشة التلفزيون والسينما باختياراته الغريبة والمدروسة لملابسه والإكسسوارات التي يستخدمها في آنٍ واحد، ومنها النظارات ذات الأطر العريضة والغريبة، والقمصان المطرزة اللامعة، كلها عناصر لم تكن عشوائية، بل جزء من فلسفة بصرية حرص عليها بكل دقة.
"ملك الإكسسوارات"، كما يصفه البعض، لم يكن يكتفي بشراء ملابس غريبة، بل كان يصمم الكثير منها بنفسه، ففي أحد لقاءاته التلفزيونية، أشار إلى تأثره الكبير بالأزياء التونسية خلال شبابه، وهو ما انعكس في القمصان المنقوشة الواسعة التي أصبحت جزءًا من هويته.
حتى شعره المستعار "الباروكة"، التي غطت صلعته الشهيرة، لم تكن مجرد وسيلة لإخفاء الشعر، بل وسيلة لتجسيد شخصيات مختلفة، وهو ما أكده في حوار مع الناقد طارق الشناوي، إذ صرّح بأنه عندما قابل النجم العالمي رود شتايجر وجده يرتدي "باروكة"، ووجه له وقتها نصيحة بأن الجمهور لا بد أن يراه في أفضل هيئة؛ لذا ذهب غانم على الفور لشراء شعر مستعار من أمريكا.
قصة فطوطة
وتتجلى عبقرية سمير غانم الحقيقية في شخصية "فطوطة" التي قدمها عبر الفوازير الشهيرة في الثمانينيات من القرن الماضي، إذ لم تكن هذه الشخصية وليدة الصدفة فقط، بل نتيجة سلسلة من التفاصيل الدقيقة والاختيارات المدروسة.
وكان من المقرر في البداية أن تحمل الفوازير اسم "ابن بطوطة"، لكن بعد تصوير أولى الحلقات شعر فريق العمل أن هناك شيئًا ناقصًا، فبدأت سلسلة من التعديلات البصرية التي قادها غانم نفسه، بدءًا من البدلة السوداء التي تحولت إلى خضراء زاهية حتى يحبها الأطفال، والشعر الكثيف المبالغ فيه، والحذاء الأصفر الضخم، وصولًا إلى نظارته الكبيرة، كلها عناصر صُمّمت بعناية لتضحك وتبهر، حسب تصريحات إعلامية سابقة للنجم الراحل.
حتى صوت "فطوطة" الشهير، جاء من لحظة عابرة في الاستوديو، عندما كان يسجل أغنية للفوازير، ولاحظ أن مهندس الصوت يقوم بتسريع الأصوات على الأجهزة، وعلى الفور فكر في أن يكون صوت فطوطة بطيئًا وتتولى الأجهزة تسريعه بنمط معين، فأصبح ذلك النمط الصوتي علامة مميزة للشخصية ويثير ضحك الجمهور، أما الحقيبة التي ارتداها كحذاء، فقد استوحاها من حقيبة رآها في شارع الشرابية، فاشترى منها اثنتين وارتداهما في قدميه.
المفارقة أن كثيرًا من لحظاته الكوميدية الأيقونية وُلدت من ارتجال ذكي قائم على الإكسسوارات، ففي مسرحية "المتزوجون"، لا يمكن للجمهور نسيان المشهد الشهير مع الفنانة شيرين، وهو يتناول الطعام مستخدمًا شوكة وملعقة ضخمتين. هذا المشهد لم يكن مكتوبًا في النص، بل جاء من فكرة طريفة خطرت له عندما رأى قطعتين من الديكور في منزل أحد أصدقائه، فطلب استعارتهما ليستخدمهما في المسرحية، ليصبح أحد المشاهد التي لا تُنسى.
الحديث عن دقة سمير غانم لا يكتمل دون ذكر طقوسه المسرحية، فعلى مدار 52 عامًا، قدّم أكثر من 25 مسرحية، لم يكن مجرد ممثل يعتلي الخشبة، بل فنان يضع خطته بعناية قبل كل عرض، برغم شهرته في الخروج عن النص، كان يلتزم بترتيبات صارمة في الإكسسوارات والأزياء، وحتى طريقة الدخول إلى خشبة المسرح، وهو ما جعله يختلف عن أي نجم كوميدي آخر.
الاهتمام بالتكوين البصري لغانم لم يتوقف عند المسرح أو السينما، ففي برنامجه "ساعة مع سمير" كان يتعمد أن يظهر في كل حلقة بنظارة مختلفة، كان يطلب من أصحاب محلات النظارات أن يوفروا له كل تصميم جديد وغير منتشر، لحرصه على أن يبقى فريدًا لا يشبهه أحد؛ لذا نضحك كلما رأينا "فطوطة"، أو نتذكر ملعقته العملاقة في "المتزوجون"، لكن خلف كل ضحكة من سمير غانم، هناك دقة "حرفي" وفنان مخلص لعمله، ولا يترك أي تفصيلة تمر من دون تخطيط.
وفي يوم 20 مايو 2021، غاب سمير غانم عن عالمنا، لكنه ترك خلفه إرثًا فنيًا ليس فقط من الضحك، بل من الاحتراف والتفرّد، لم يكن مجرد نجم ارتجالي يضحك الجمهور، بل نجم يهتم بكل تفاصيل العمل، ويبني كل شخصية ليخلق منها عالمًا متكاملاً.