في غزة، لا يُسمع صدى الانفجارات فقط، بل تُسمع أيضًا قرقرة البطون الخاوية، والعيون الباحثة عن رغيف يقيهم الجوع.
تحت الشمس الحارقة، يقف الفلسطينيون في طوابير لا تنتهي، لساعات، على أمل طبق من العدس أو حفنة من المعكرونة، إنها ليست مشاهد من مجاعة قديمة في القرن الماضي، بل واقع يومي في عام 2025، تصفه التقارير الدولية بأنه "كارثي".
و بحسب وكالة "أسوشيتد برس" الأمريكية، فإن هذه المجاعة الجماعية، إذا لم تُرفع القيود ويُسمح للمساعدات بالعبور، فإنها تمثل أزمة إنسانية تتفاقم تحت أنقاض القصف، وفي ظلال الحصار، لتنذر بكارثة.
مجاعة وشيكة في غزة
حذر خبراء في الأمن الغذائي، وفق "أسوشيتد برس"، من أن قطاع غزة على شفا مجاعة، ما لم ترفع إسرائيل حصارها الخانق وتوقف عملياتها العسكرية المستمرة. وأفاد التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي، وهو هيئة دولية مرجعية في رصد شدة أزمات الجوع، أن نحو نصف مليون فلسطيني يعيشون في مستويات "كارثية" من انعدام الأمن الغذائي، في حين أن مليون شخص آخرين بالكاد يتمكنون من الحصول على ما يسد رمقهم.
وبحسب التقرير، فإن هناك "خطرًا كبيرًا" لحدوث مجاعة فعلية إذا استمرت الظروف الراهنة دون تغيير.
ومنذ عشرة أسابيع، منعت إسرائيل دخول كافة أشكال الإمدادات إلى غزة، بما في ذلك الطعام، والأدوية، والمستلزمات الإنسانية، وذلك بالتزامن مع تصعيد عسكري دموي استهدف البنية التحتية المدنية والزراعية.
وتعتمد الغالبية العظمى من سكان القطاع، الذين يبلغ عددهم نحو 2.3 مليون نسمة، على المساعدات الخارجية للبقاء على قيد الحياة، بعد أن دمرت العمليات العسكرية معظم قدرات إنتاج الغذاء المحلية.
وتُعد المطابخ الجماعية آخر مصدر للطعام بالنسبة لكثير من العائلات الغزية، لكنها بدأت هي الأخرى تغلق أبوابها؛ بسبب نفاد الإمدادات.
الجوع لتدمير القطاع
في مشهد يعكس اليأس، يتجمع آلاف الفلسطينيين يوميًا أمام المطابخ العامة، حاملين أوانيهم الفارغة، في سباق محموم من أجل وجبة بسيطة من عدس أو معكرونة، وتقول ريهام شيخ العيد، وهي تنتظر في مطبخ بخان يونس، بحسب "أسوشيتد برس":"نقف في الطابور لأربع أو خمس ساعات تحت الشمس الحارقة، وفي النهاية، نغادر غالبًا دون أن نحصل على شيء، هذا لا يكفي الجميع".
وصرّح كريس نيوتن، المحلل في مجموعة الأزمات الدولية والمتخصص في استخدام الجوع كسلاح، بأن غياب الإعلان الرسمي عن المجاعة لا يعني أن الناس لا يعانون، وأكد أن "الحكومة الإسرائيلية تستخدم الجوع كوسيلة لتدمير القطاع وتغيير الواقع فيه".
وكان الجيش الإسرائيلي زعم أن كميات كافية من المساعدات دخلت غزة خلال الهدنة التي استمرت شهرين، قبل أن تنتهي في مارس مع استئناف الهجمات.
إسرائيل تضع شروطًا جديدة
تصرّ إسرائيل على عدم السماح بدخول المساعدات الإنسانية؛ حتى يتم وضع آلية جديدة تتيح لها مراقبة وتوزيع تلك المساعدات، متهمة حركة حماس باختلاس الإمدادات. من جانبها، رفضت الأمم المتحدة الانخراط في النظام المقترح، نافية وجود تحويل كبير للمساعدات، ومؤكدة أن هذه الشروط ستزيد من تعقيد الأزمة.
وبينما تقول الولايات المتحدة إنها تعمل على إعداد آلية جديدة لتسليم المساعدات، فإنها لم تعلن بعد عن موعد محدد لبدء التنفيذ.
وأوضح التقرير الدولي أن جميع سكان غزة تقريبًا يعانون من مستويات مرتفعة من الجوع بسبب الحرب، وانهيار البنية التحتية، وتدمير الزراعة، واستمرار الحصار.
ويقول محمود السقا، منسق الأمن الغذائي في منظمة أوكسفام: "الصمت تجاه هذا التجويع المصطنع هو تواطؤ صريح، يجب على الحكومات أن تضغط على إسرائيل للسماح بوصول إنساني بلا قيود".
كارثة بالأرقام
وفقًا لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، تُعلن المجاعة عندما يتحقق اثنان من ثلاثة معايير:
أن يكون 20% من السكان يواجهون نقصًا حادًا في الغذاء.
أن يكون 30% من الأطفال دون سن الخامسة يعانون من الهزال.
وفاة شخصين أو أربعة أطفال من كل 10 آلاف يوميًا بسبب الجوع أو المرض.
في غزة، تحقق الشرط الأول بالفعل، إذ أفاد التقرير بأن 477 ألف فلسطيني، أي 22% من السكان، يُصنفون في حالة "جوع كارثي" خلال الفترة من 11 مايو حتى نهاية سبتمبر، كما أن أكثر من مليون شخص يُصنفون في المرحلة الثانية "الطارئة"، حيث يعانون من فجوات حادة في الحصول على الغذاء وسوء تغذية مرتفع.
زراعة تحت الأنقاض
أفادت بيث بيكدول، نائبة مدير منظمة الأغذية والزراعة، بأن أكثر من 75% من الأراضي الزراعية في غزة قد تضررت أو دُمّرت، وأن ثلثي الآبار التي تُستخدم للري لم تعد صالحة للعمل، وقالت إن هذا الدمار الواسع "يدفع أعدادًا كبيرة من السكان نحو حدود المجاعة المتوقعة."
ومع نفاد الوقود، توقف توزيع المياه بشكل شبه كامل، بينما ارتفعت أسعار المواد الغذائية المتبقية إلى مستويات تفوق قدرة معظم السكان، مع اختفاء العديد من السلع الأساسية من الأسواق.
قال مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) إن عدد الأطفال الذين يتلقون علاجًا من سوء التغذية، قد تضاعف منذ فبراير، على الرغم من أن الإمدادات الطبية اللازمة بدأت تنفد. وبسبب النقص الحاد، أوقفت منظمات الإغاثة توزيع الغذاء، ما يزيد من سوء الأوضاع.
اندلعت الحرب في غزة بعد هجوم مفاجئ شنته حماس في السابع من أكتوبر 2023، إذ تقول وزارة الصحة في غزة إن الهجمات الإسرائيلية المضادة أسفرت عن مقتل أكثر من 52 ألف فلسطيني، بينهم نسبة كبيرة من النساء والأطفال.
ويقف سكان غزة في مواجهة مفتوحة مع الموت البطيء، وبينما تتحرك بعض العواصم ببطء لصياغة آلية للمساعدات، فإن الساعة تدق، والمجاعة تقترب، وتحذر التقارير الدولية من أن أي تأخير إضافي قد يدفع الوضع إلى نقطة اللاعودة، حيث يصبح كل تأخير في إدخال الغذاء والدواء قرارًا بالموت لآلاف المدنيين.