نجح صلاح أبو سيف، أحد أبرز مخرجي السينما المصرية والعربية، في بناء مسيرة فنية متميزة جعلت أعماله جديرة بالمشاهدة حتى يومنا هذا، وذلك لاهتمامه البالغ بالتفاصيل، خاصة في اختيار الممثلين للأدوار التي يجسدونها، وقدرته على التعبير عن المجتمع.
المخرج -الذي تحل اليوم ذكرى ميلاده الـ110- قدم أفلامًا تعكس الواقع الاجتماعي بكل مرارته وجماله، ليترك بصمة لا تمحى في تاريخ السينما العربية.
قدرة "أبو سيف" على اختيار الممثلين المناسبين كانت من أهم عوامل نجاح أفلامه، فكان يولي اهتمامًا خاصًا في اختيار الممثلين الذين يجسدون الشخصيات بأعلى درجات الواقعية، مؤمنًا بأن الممثل ليس مجرد أداة لإلقاء الحوار، بل يجب أن يصبح جزءًا من الشخصية التي يؤديها، ولم يكن يهتم بشهرة الممثل بقدر ما كان يهتم بمدى توافقه مع الدور.
اختيار الممثلين.. عنصر النجاح
في العديد من أفلامه، اعتمد "أبو سيف" على ممثلين لم يكونوا من النجوم اللامعين آنذاك، ولكنهم أظهروا براعة كبيرة في تقديم الشخصيات، فنجد في فيلم "بداية ونهاية" اختار الممثلة سناء جميل لتجسيد دور "نفيسة" المحوري في العمل، رغم أنه لم يسبق لها في ذلك الوقت أن تولت مهمة دور محور وأساسي في عمل فني، كما أن مهمتها كانت صعبة للغاية لأن النجمة فاتن حمامة ذائعة الصيت وقتها اعتذرت عن تجسيد الشخصيةـ لكن "أبو سيف" لم يكن يتبع القواعد التقليدية في اختيار النجوم، بل كان يركز على الموهبة الحقيقية والقدرة على إيصال رسالة الفيلم.
نرى ذلك أيضًا في إسناده بطولة فيلم "شباب امرأة"، إلى شكرى سرحان، ليجسد دور "إمام البلتاجي" الشاب القروي الذي يأتي إلى القاهرة ويجد نفسه يقع في شباك امرأة تكبره سنًا ويتورط معها في علاقة عاطفية، هذا الدور عبر عنه شكري سرحان في لقاءات إعلامية "أنه كان بمثابة نقلة فنية كبيرة في مشواره الفني".
أما عن فلسفة صلاح أبو سيف في السينما، فكانت دائمًا مبنية على مبدأ رئيسي وهو "أن السينما يجب أن تكون مرآة للمجتمع"، ودور المخرج التعبير عن هموم وتطلعات المجتمع من خلال أفلامه، وهو ما جعله يختار دائمًا الموضوعات التي تعكس قضايا اجتماعية حيوية، وهو ما عبر عنه صراحة في حوار قديم كاشفًا أن ما جذبه إلى السينما رغبته في التعبير عما يعيشه المجتمع، لذا كانت أفلامه دائمًا تركز على تصوير الواقع كما هو، دون تزييف أو تحريف، مازجًا إياه بخبراته الشخصية الحياتية، ففي فيلم "بين السماء والأرض" مثلًا، قدم أبو سيف صورة دقيقة عن المجتمع المصري من خلال تجسيد حياة الطبقات المختلفة والصراعات التي تواجههم، مصورًا مجموعة من الأشخاص محبوسين داخل مصعد كهربائي، هذه التجربة التي عاشها على أرض الواقع بالفعل.
عمل "أبو سيف" على تقديم أفلام تجسد التحديات الاجتماعية والسياسية، ومنها قضايا الفقر والظلم الاجتماعي ومعاناة الطبقات المهمشة، لكنه لم يكن مجرد مخرج يعرض المشكلات بل كان يطرح حلولًا أو على الأقل يترك المساحة للجمهور للتأمل في الحلول الممكنة، ففيلمه "الزوجة الثانية" على سبيل المثال قدم صورة معقدة للريف المصري في الخمسينيات، ناقش من خلاله القضايا الأخلاقية والاجتماعية في قالب درامي مؤثر.
الواقع الاجتماعي
يعد "أبو سيف" من المخرجين الذين لا يخشون تقديم الواقع بشكل مباشر، حتى وإن كان ذلك يثير بعض الجدل أو يعرضه للمساءلة، فقد كان يعتقد أن دور السينما لا يقتصر فقط على التسلية، بل يجب أن تكون أداة للتوجيه والوعي الاجتماعي، وكانت أفلامه بمثابة دعوة للتفكير في وضع المجتمع وتحليل التحديات التي يواجهها.
وفي فيلم "القاهرة 30" الذي يعد من أبرز أعماله، عكست الشخصيات الصراع بين الطبقات المختلفة في مصر بفترة الثلاثينيات من القرن الماضي، وتخلي الفرد عن مبادئه وكرامته من أجل تحقيق أحلامه المادية، وهو ما جعل الفيلم يحتفظ بمكانته في تاريخ السينما العربية، ولم يكن مجرد تسليط للضوء على المعاناة الاقتصادية، بل كان دعوة للتفكير في كيفية تغيير هذا الواقع.
نجح "أبو سيف" في معالجة القضايا السياسية والاجتماعية بطريقة فنية لا تتجاوز حدود السينما كفن، بل تجعله أداة فاعلة للتغيير والتأثير، وكانت أفلامه تظل تمثل صوت المجتمع وتسعى إلى التفاعل مع قضاياه العميقة، وفي فيلم "الناصر صلاح الدين"، على سبيل المثال، قدم أبو سيف صورة سينمائية تاريخية مزجت بين العمل الفني والرسالة الوطنية.
رغم مرور الوقت، تظل أفلام صلاح أبو سيف خالدة بفضل فلسفته السينمائية التي مزجت بين الواقعية والفن، ونجح في الحفاظ على بريق أعماله بفضل توازنه بين التناول الجاد للقضايا الاجتماعية والتصوير الفني الرائع الذي يتسم بالأصالة، لتقف أفلامه حتى يومنا هذا على أرض صلبة لأنها تلامس واقع الناس وحياتهم اليومية.