مع استمرار العدوان الإسرائيلي، والنقص الحاد في الغذاء، يلاحق الموت سكان غزة، سواء من الجوع، أو بنيران الاحتلال، وهو ما رصدته صحيفة "هاآرتس" الإسرائيلية، في تقريرها عن معاناة النازحين في غزة من الجوع نتيجة النقص الحاد في الغذاء، وأوامر الإخلاء المتكررة الصادرة من جيش الاحتلال.
ونقلت الصحيفة عن صحفى من غزة، رفضت الكشف عن هويته، والذي وصف جهوده لمواجهة نقص الغذاء والمياه النظيفة، ويبدو عليه الإرهاق: "الأمر صعب للغاية، صعب لدرجة أنني لا أستطيع التركيز".
يقول الصحفي: "أشعر بالضعف.. أتناول تمرة في الواحدة ظهرًا وأخرى في السادسة.. هذا هو الوضع منذ ثلاثة أسابيع.. نفد الأرز تقريبًا في المنزل، ولا يوجد دقيق.. كل ما أفكر فيه هو كيفية إطعام أطفالي في الأيام القليلة القادمة".
وذكرت" هاآرتس" أن نقص الغذاء يمثل التحدي الأكبر الذي يواجهه معظم سكان غزة الآن، فقد مرّت 8 أسابيع منذ أن أوقفت إسرائيل دخول المساعدات إلى القطاع، ويحذر الخبراء من تدهور مفاجئ وسريع في الوضع الصحي نتيجة نقص الغذاء والمياه النظيفة والأدوية.
ولفتت الصحيفة إلى أن هذا الوضع ليس جديدًا على سكان غزة. ففي العام الماضي، تعلموا التكيف مع الظروف القاسية، بما في ذلك الجوع، لكنهم الآن منهكون للغاية، نفسيًا وجسديًا، ومع كل يوم تتآكل قدرتهم على البقاء أكثر فأكثر.
يقول الصحفي: "المواد الغذائية الأساسية مفقودة في كل مكان، في رفح ومدينة غزة ودير البلح.. إنها مأساة أخرى بالنسبة لنا. يقول الناس إنهم اضطروا لتناول لحم القنفذ أو السلاحف للتكيف مع الوضع".
وأضاف أن "الطعام والمساعدات الأخرى في مستودعات المنظمات الإنسانية آخذة في النفاد أيضًا.. نحسب كل يوم ولا نهدر شيئًا، ونتوقع أن يزداد الوضع سوءًا".
قبل 3 أسابيع، وبسبب نقص الدقيق وغاز الطهي، أغلق برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة المخابز المدعومة التي كانت تشكل جزءًا أساسيًا من غذاء سكان غزة. ومنذ ذلك الحين، يعتمد الناس بشكل كبير على نحو مليون وجبة ساخنة يوميًا تقدمها 175 جمعية خيرية تُعرف باسم "التكية"، يديرها متطوعون وكانت تعمل بالفعل قبل الحرب.
تشمل الوجبة عادة شوربة العدس والحمص أو الفاصوليا، وأحيانًا الأرز، ووفقًا للأمم المتحدة، تعد هذه الوجبة الرئيسية لكثير من سكان غزة، لكنها لا تلبي احتياجاتهم الغذائية، ويعد الحصول على اللحوم الطازجة ومنتجات الألبان والبيض والفواكه والخضراوات أمرًا صعبًا للغاية.
نور، نازحة من مدينة غزة تبلغ من العمر 42 عامًا، تعيش في مخيم النصيرات للاجئين وسط غزة مع زوجها وأطفالهما الثلاثة الذين تتراوح أعمارهم بين 7 و12 عامًا، ومثل معظم عائلات المخيم، يعتمدون على مطابخ الحساء لتوفير لقمة العيش، تقول: "لولا توزيع الطعام هناك، لما وجد الناس ما يأكلونه.. وضع أسوأ مما يتخيله الناس خارج غزة، روتين العائلة اليومي يبدأ بالبحث عن الطعام.. يذهب الأطفال إلى التكية صباحًا بأوانٍ فارغة وينتظرون حتى ينضج الطعام.. لكن الطعام لا يكفي لإطعام جميع العائلات النازحة".
تتكون قائمة طعام العائلة اليومية من شوربة العدس أو الفاصوليا أو الحمص، ثم الأرز مرة واحدة أسبوعيًا. تقول نور: "نتناول وجبة واحدة يوميًا، أيًا كان ما نحصل عليه من التكية.. تقدم هذه الوجبة في قدر يقسم محتواه داخل العائلة.. أقيس الحصص بكوب.. يتسع الإناء لستة إلى ثمانية أكواب.. أتناول أنا وزوجي كوبًا واحدًا، ونقسم الباقي بالتساوي بين الأطفال.. هذا هو الحل الوحيد المتاح لدينا حاليًا، وأخشى أن تتوقف التكية عن العمل في الأسابيع المقبلة، ولن يكون لدينا ما نأكله حينها".
مشروع "التكية" قائم بفضل تبرعات من المجتمعات الإسلامية حول العالم، ويقول محمد، 48 عامًا، وهو متطوع في مطبخ جماعي بوسط غزة: "في الماضي، كانت مخصصة بشكل رئيسي للأسر الفقيرة.. إنها فريضة إطعام المحتاجين".
ويضيف: "يتم شراء المكونات بكميات كبيرة، ونستطيع إعداد ما بين 1500 و2000 وجبة يوميًا، لكن هذا لا يكفي الجميع.. إن منع المساعدات الغذائية من غزة سيصعب علينا الاستمرار".
يتذكر محمد شيئًا حدث قبل أيام قليلة، كان هو وزملاؤه يقومون بطهي الوجبات أمام الناس المنتظرين في الطوابير. كانت هناك فتاة في الثانية عشرة تقريبًا تبكي خوفًا من ألا يأتي دورها، يقول: "رأيت القلق في عينيها وخوفها من العودة إلى خيمتها بإناء فارغ.. هذا يحدث أحيانا للأسف".
يقول أمجد، 37 عامًا، من بيت لاهيا شمال غزة، وهو أب لتوأمين يبلغان من العمر أربع سنوات: "تعلمنا التعايش مع نقص الكهرباء حتى قبل الحرب.. فمع نقص الكهرباء، يمكنك على الأقل استخدام الطاقة الشمسية لتزويدك بساعتين يوميًا، ولكن أين تجد الطعام وكل شيء حولك مدمر؟".
يذكر أمجد البنية التحتية الزراعية التي دُمرت خلال الحرب، بينما أُخليت مساحات شاسعة من غزة، فمنذ استئناف الحرب قبل أكثر من شهر، أصدر جيش الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 20 أمر إخلاء لمناطق مختلفة.
وتقول مصادر في منظمات إنسانية إن هذه الأوامر ليس لها تاريخ انتهاء صلاحية، ولا أحد يعلم إن كان سيتمكنون من العودة إلى المنطقة المحددة بعد هجوم الجيش الإسرائيلي، وذكر تقرير للأمم المتحدة الأسبوع الماضي أن 69% من غزة تُصنف على أنها منطقة محظورة على الفلسطينيين، إما لأنها أصبحت جزءًا من منطقة عازلة أو بسبب أوامر إخلاء.
ظاهريًا، لا علاقة لأوامر الإخلاء بقضية الجوع، ولكنها في واقع الأمر تحرم سكان غزة من تكتيك يائس أخير، وهو زراعة طعامهم بأنفسهم.
يقول أمجد: "لا نستطيع حتى العودة إلى أرضنا، وعندما تُغلق المعابر الحدودية ويُمنع دخول المساعدات الإنسانية، يرفع الباعة الأسعار.. يبلغ سعر كيس الدقيق الآن 130 أو 150 دولارًا، حسب الطلب.. ومن لا يستطيع تحمل هذا السعر لا يستطيع أكل الخبز".
ربيع، مهندس زراعي يبلغ من العمر 39 عامًا من دير البلح وسط غزة، قال لـ"هاآرتس"، إن سكان غزة لا يستطيعون زراعة أي شيء لأنهم مضطرون باستمرار لمغادرة مكان إقامتهم.
الوضع في خان يونس جنوبًا مأساوي أيضًا، تجلس مها (39 عامًا) على فراش ممزق في مأوى مؤقت. تقول وهي تحمل طفلتها الصغيرة خلال مكالمة الفيديو: "كنت أحلم أن تحتفل ابنتي بعيد ميلادها بكعكة.. الآن أحلم أنها ستأكل وجبة واحدة في اليوم.. عندما تبكي ليلا، أغني لها حتى تنسى الجوع.. من الصعب أن أرى ابنتي جائعة وأعلم أنني لا أملك ما أطعمها به سوى حليب مجفف لا يناسب عمرها".
تتابع: "في المساء، آخذ نصف تمرة وأضعها في قطعة قماش لتلعقها، كالحلوى. نعيش على شيء يشبه الطعام دون أن نعرف متى سنتمكن من تناول وجبة كاملة مرة أخرى".
في شمال غزة، يعاني العائدون إلى منازلهم المدمرة من نقص الغذاء أيضًا. تقول فاطمة، البالغة من العمر 28 عامًا من جباليا: "فقدنا الأمل بالحياة.. سنموت إما جوعًا أو قصفًا".
عادت فاطمة ووالداها مؤخرًا إلى منزلهم المدمر جزئيًا، وتقول: "من المستحيل شراء الدقيق.. سعر خمسة كيلوجرامات يتراوح بين 160 و200 دولار.. يستغل البائعون الوضع ويرفعون الأسعار، وهم يعلمون أننا لا نستطيع تحمل التكلفة.. سعر كيلوجرام السكر 30 دولارًا".
تقول فاطمة إن ابن أخيها، البالغ من العمر ثلاث سنوات، يستيقظ ليلًا من الجوع، ويبكي من ألم في معدته. في الأسبوع الماضي، تكاتفت العائلة الموسعة لشراء كيلوجرام من الأرز مقابل 40 دولارًا.
تضيف: "نأخذ حفنة من الأرز، ونطحنه، ثم نغليه في الماء ونضيف إليه القليل من السكر. يشبه الطبق حبوب الإفطار الساخنة.. نحضر ثلاثة أطباق، واحد لابن أخي الصغير، ويتقاسم الكبار الباقي. يكون المجموع ملعقتين أو ثلاث ملاعق لكل شخص".
وبسؤالها عمّا ستفعله عندما ينفد الأرز، قالت فاطمة: "لا نعرف.. هذا ليس طعامًا، إنه حزن عميق.. كلنا جائعون.. لم تترك لنا الحرب شيئًا.. كلنا خاسرون".