من جملة محبطة سمعها من وكيل أعماله في فترة شبابه، أخبره فيها بأنه لا يصلح لأن يكون ممثلًا، انطلق الممثل الأمريكي جاك نيكلسون ليتحدى نفسه قبل الآخرين، ويمضي قدمًا في مشواره الفني محققًا إنجازات وأرقامًا قياسية تزين مسيرته.
النجم الذي بدأ مشواره الفني بأدوار صغيرة في أفلام متواضعة خلال الستينيات من القرن الماضي، سرعان ما شق طريقه بثبات إلى مصاف عمالقة الشاشة الكبيرة. لم يكن النجاح سهلًا، لكنه جاء كثمرة موهبة استثنائية ورغبة لا تهدأ في التجريب والتجديد.
جاك نيكلسون، الذي يحتفل اليوم بعيد ميلاده الـ88، وُلِد في الـ22 من أبريل عام 1937 في نيوجيرسي، في ظروف عائلية معقدة لم يعرف حقيقتها إلا بعد أكثر من 3 عقود من حياته، فقد اكتشف في سن الـ37 أن من ظنهما والديه هما في الواقع أجداده، وأن المرأة التي اعتبرها أخته كانت في الحقيقة والدته البيولوجية. هذه الحقيقة الغريبة لم تهزه، بل تقبلها كجزء من الرواية الشخصية المعقدة التي شكلت جزءًا من شخصيته المتمردة.
في بداياته، عمل جاك في متجر ألعاب ثم التحق بوظيفة في قسم الرسوم المتحركة بشركة MGM، وهناك اكتشفه أحد المنتجين وأوصى بتجربته كممثل.
تلك الفرصة قادته إلى سلسلة من الأفلام المنخفضة الميزانية، بينها Little Shop of Horrors "متجر الرعب الصغير" عام 1960، لكن الفيلم الذي غيّر مسار حياته كان Easy Rider "الراكب السهل" في عام 1969، حيث لفت الأنظار إليه في مهرجان كان، وقرر بعدها أن يتفرغ للتمثيل بشكل كامل قائلًا لنفسه: "لقد أصبحت نجمًا سينمائيًا".
إنجاز مهني
خلال السبعينيات، بلغ جاك قمة نجوميته، وقدم أدوارًا أصبحت مرجعية في تاريخ التمثيل، من أبرزها شخصية المحقق في Chinatown "الحي الصيني"، وبالطبع الدور الذي حصد عنه أول أوسكار في حياته One Flew Over the Cuckoo’s Nest "أحدهم طار فوق عش الوقواق"، إذ جسد دور راندل ماكميرفي، وهو رجل متمرد يتم إيداعه مستشفى نفسيًا. قدم نيكلسون أداءً عبقريًا جمع بين الجنون والذكاء، بين الهزل والمرارة، وهو ما جعله يتفوق على أسماء كبيرة كانت مرشحة للدور مثل مارلون براندو وبيرت رينولدز.
وفي حقبة الثمانينيات، حصد جائزة الأوسكار الثانية من خلال Terms of Endearment "عبارات التودد"، عن دور طيار متقاعد يضفي بعدًا إنسانيًا على فيلم يدور حول العلاقات العائلية. أما جائزة الأوسكار الثالثة فكانت في التسعينيات عن فيلم As Good as It Gets "أفضل ما يمكن حدوثه"، الذي أدى فيه دور كاتب منعزل يعاني من اضطراب نفسي، يتعلم تدريجيًا كيف يكون أكثر تعاطفًا مع الآخرين.
ورغم نجاح الفيلم في وقته، فإن الكثيرين اليوم يرون أن شخصيته نالت غفرانًا غير مستحق، وأن الفيلم أعطى بطله خلاصًا بسيطًا لم يتوافق مع قسوته الأصلية.
حصد جوائز الأوسكار ليست وحدها ما يميز نيكلسون، فهو أكثر الممثلين الذكور ترشيحًا لهذه الجائزة في تاريخها، بـ12 ترشيحًا، وانضم لفريق صغير يضم فقط 6 ممثلين فازوا بـ3 جوائز، كما حصل على جوائز أخرى منها جولدن جلوب وبافتا.
نيكلسون بدأ حياته كاتبًا ومخرجًا في بداياته، حيث كتب فيلم Head لفرقة ذا مونكيز، وشارك في كتابة The Missouri Breaks الذي شارك فيه التمثيل مع مارلون براندو، لكن واحدة من أبرز لحظات ذكائه التجاري تجلت في دوره الأسطوري في فيلم Batman "باتمان" عام 1989، حين جسد شخصية الجوكر. جاك لم يكتف بأجر التمثيل، بل اشترط الحصول على نسبة من أرباح البضائع المتعلقة بالفيلم، وهو ما منحه لاحقًا أكثر من 50 مليون دولار، في صفقة لا تزال تدرس حتى اليوم.
اعتزال التمثيل
حياة جاك نيكلسون الخاصة لم تكن أقل غرابة من أفلامه، ففي الستينيات، اشترى أرضًا في نيو مكسيكو لأصدقائه، لكنها تحولت لاحقًا إلى معسكر لقطاع الطرق، كما أنه رفض الظهور في البرامج التلفزيونية، معتزلًا الإعلام المرئي تقريبًا، باستثناء حضوره المنتظم لمباريات فريق لوس أنجلوس ليكرز، حيث كان من أشهر مشجعيهم.
اعتزل نيكلسون التمثيل رسميًا في 2010، تاركًا وراءه إرثًا فنيًا ضخمًا ومتنوعًا، من Five Easy Pieces "خمس مقطوعات سهلة" إلى The Shining "البريق"، ومن A Few Good Men "بعض الرجال المحترمون" إلى About Schmidt "حول شميدت"، ونجح في أن يصنع لنفسه شخصية فنية مميزة، فهو ممثل استطاع أن يجمع بين الكاريزما المتمردة والعمق النفسي، بين الهزل والسخرية والدراما الثقيلة. وكأن كل شخصية أداها كانت مرآة لانعكاسات مختلفة من ذاته، تلك الذات التي تحمل خليطًا نادرًا من العبقرية والجنون والصدق الفني.
لا يزال جاك نيكلسون يمثل رمزًا لعصر ذهبي في هوليوود، ولأسلوب تمثيلي يصعب تكراره، ممثل جعل من كل دور تجربة استثنائية، ومن كل ظهور على الشاشة درسًا في التقمص والتأثير. ورغم الإشادة المتكررة من النقاد وصناع السينما بأدواره، فإنه لم يتوقع يومًا أن تتوج مسيرته بكل هذه الجوائز، وكانت كلماته في حفل أوسكار عام 1976 هي الأصدق تعبيرًا عن هذا الشعور، حين قال بسخرية: "أعرف الآن أن عدد المجانين في الأكاديمية ليس أقل من أي مكان آخر".