على مدى عقود، ظل المشهد السينمائي المصري ساحةً خصبة للتجريب والتجدد، تتبدل فيها الوجوه والرؤى، وتنبثق من رحمها موجات فنية تعبّر عن روح كل جيل، وبين الحين والآخر، يبرز إلى السطح مصطلح "سينما الشباب"، مع صعود مجموعة من المبدعين الجدد، سواء أمام الكاميرا أو خلفها، تطرح أعمالهم تساؤلات عن مدى وجود تيار سينمائي جديد يحمل بصمة هذا الجيل، أو ما إذا كان هذا المصطلح تعبيرًا فضفاضًا، يُستخدم مع كل انطلاقة جديدة دون وضوح حقيقي لمضمونه.
في السنوات الأخيرة، عاد هذا المصطلح ليتردد بقوة، مع تصدر مجموعة من الأفلام التي حملت توقيع شباب، وحققت نجاحًا جماهيريًا لافتًا، على الرغم من أن بعضهم دخل المنافسة لأول مرة في السينما مثل فيلم "الحريفة"، الذي حقق إيرادات غير متوقعة، وهو ما شجّع الكثير من المنتجين على تقديم أفلام يتصدرها الشباب، ما يذكّرنا بأفلام "إسماعيلية رايح جاي" و"صعيدي في الجامعة الأمريكية" و"همام في أمستردام"، تلك الأعمال التي فتحت الباب لانطلاق جيل أصبحوا نجومًا وأسماء ذات ثقل فني الآن.
ومع تكرار الظاهرة وخاصة مع تصدر تجارب تندرج تحت السياق نفسه في موسم أفلام عيد الفطر المبارك، التي حققت نجاحًا لافتًا، يبحث موقع "القاهرة الإخبارية"، في جدلية مصطلح "السينما الشبابية" ومدلوله، فيما إذا كان تيارًا فنيًا يحمل سمات محددة، أم مجرد تسمية مؤقتة، وذلك من خلال آراء عدد من النقاد يتناولون هذا الجانب من زوايا مختلفة.
مصطلح غامض
يرى الناقد السينمائي طارق الشناوي أن مصطلح "السينما الشبابية" تعبير غامض وغير دقيق، مشيرًا إلى أنه لا يُستخدم في السياقات الفنية العالمية بهذا الشكل، ولا يعكس واقع التجارب السينمائية.
يوضح "الشناوي" أن الشباب، بطبيعتهم، يمثلون الجمهور الأساسي للفنون عمومًا، والسينما على وجه الخصوص، سواء كانوا في سن المراهقة أو في العشرينات، وهو ما يجعل كل الفنون، بشكل أو بآخر، موجهة إليهم دون الحاجة إلى تصنيفات خاصة.
ويتابع: "غالبًا ما يُستخدم هذا المصطلح عندما تظهر موجة جديدة في السينما، دون أن يكون لها اسم واضح، فيُطلق عليها "شبابية" كمجرد توصيف مؤقت، لا يعكس جوهرها".
ويضرب "الشناوي" مثالًا ليدعم رؤيته، قائلًا: "الموسيقار محمد عبد الوهاب قدّم ألحانًا وُصفت بأنها شبابية، رغم أنه كان كبيرًا في العمر، وهذا يدل على أن الإبداع لا يرتبط بالعمر".
ويختم الناقد المصري مؤكدًا أن وصف بعض الأفلام بـ"سينما الشباب" ما هو إلا محاولة تصنيف غير ناضجة، تجعل المصطلح ملتبسًا وغير دقيق.
موجة فنية أم تصنيف عمري
في المقابل، يتبنى الناقد كمال رمزي مقاربة أكثر مرونة، إذ يرى أن "السينما الشبابية" لا ينبغي النظر إليها باعتبارها تصنيفًا عمريًا، بل هي أشبه بـ"موجة سينمائية" تتشكل عندما يظهر جيل جديد من صنّاع السينما -من مخرجين وممثلين وكتّاب- يحملون رؤى فنية متقاربة.
ويؤكد "رمزي" أن هذه الظاهرة لا تحتاج إلى تعمد أو تصنيف مسبق، بل تحدث بشكل طبيعي حين تتقاطع تجارب مجموعة من المبدعين الذين ينتمون إلى زمن واحد، فيتكون من خلالهم تيار له سماته الخاصة.
ويستشهد "رمزي" بما حدث في أجيال سابقة، مثل جيل عاطف الطيب وبشير الديك، الذين كوّنوا معًا موجة سينمائية واضحة الملامح، دون الحاجة إلى توصيفات مصطنعة.
ويُفضّل "رمزي" استخدام مصطلح "السينما الحرة" بدلًا من "السينما الشبابية"، معتبرًا أنه أكثر دقة، ويحمل دلالات فنية تعبر عن طبيعة هذا الحراك، خاصة ما يتعلق بالتحرر من القوالب التقليدية.
مصطلح قديم
أما الناقد عصام زكريا، فيؤكد أن مصطلح "السينما الشبابية" ليس جديدًا، بل تم استخدامه مرارًا عبر تاريخ السينما المصرية والعالمية، في محاولات لرصد ظواهر متكررة داخل الصناعة.
ويشير إلى أن هذا التوصيف ارتبط أخيرًا بجيل محمد هنيدي في نهاية التسعينيات، وقبله بجيل من المخرجين الجدد في الثمانينيات، ما يدل على أن هذه الموجات تأتي في دورات متعاقبة، كلما طرأت تحولات واضحة على الخريطة السينمائية.
ويُحلل زكريا الوضع الراهن قائلًا إن "السينما المصرية تقف حاليًا عند مفترق طرق، بعدما هيمن على المشهد لفترات طويلة مجموعة من النجوم الكبار، بدءًا من جيل ليلى علوي ويسرا، ثم جيل التسعينيات الذي ضم محمود حميدة، ومن بعدهم جيل أحمد السقا، وأحمد عز، وكريم عبد العزيز، وغادة عادل، ومنة شلبي. هؤلاء النجوم حافظوا على صدارة المشهد لما يقرب من 20 عامًا، وكان من النادر أن يظهر بجوارهم نجوم جدد إلا في إطار محدود".
ويُضيف أن الموجة الجديدة من الفنانين الشباب ظهرت غالبًا من خلال الدراما التلفزيونية، أو المنصات الرقمية، أو حتى عروض الستاند أب كوميدي، حيث دخل هؤلاء إلى السينما بأسماء أصبحت مألوفة للجمهور، ومع الوقت حصلوا على مساحات أكبر من الأدوار.
ويتابع: "في البداية، شارك هؤلاء في أفلام جماعية تضم 8 أو 10 ممثلين من خلفيات مختلفة، بينهم نجوم 'مسرح مصر' ونجوم سوشيال ميديا، وقد نجحت تلك التركيبات رغم غرابتها، كما رأينا في أفلام مثل 'الحريفة 1 و2'، ثم توالت المفاجآت مع أفلام حققت نجاحات كبيرة مثل الهوى سلطان".
ويرى "زكريا" أن المنتجين أدركوا من خلال هذه النجاحات المتكررة أن السوق في حاجة إلى دماء جديدة، خاصة مع التراجع النسبي في نجومية بعض الأسماء القديمة، ما فتح الباب أمام مغامرات إنتاجية متنوعة.
ويختم بقوله: "نحن على أعتاب انطلاقة مختلفة في السينما المصرية، فجيل السقا وأحمد عز وكريم عبد العزيز يقترب من مرحلة انتقالية، سيصبح من الطبيعي خلالها أن يتجه هؤلاء النجوم إلى أدوار تناسب أعمارهم، وهو ما سيفسح المجال أكثر للوجوه الجديدة، لتعيد تشكيل المشهد السينمائي".
في ضوء ما سبق، يبدو أن "سينما الشباب" كمصطلح يراوح مكانه بين التوصيف الفني والتحفظ النقدي، ففي حين يرى البعض أنه تعبير عن موجة حقيقية تُعبّر عن روح الزمن ومتغيراته، يحذّر آخرون من الوقوع في فخ التعميم، وإطلاق تسميات فضفاضة قد تُعطل الفهم العميق للتحولات الفنية.
ما لا يمكن إنكاره، أن السينما المصرية تمر الآن بمرحلة انتقالية مثيرة، يتصدرها جيل جديد من المبدعين الذين لا يكتفون بالظهور، بل يسعون لإعادة صياغة معادلة النجاح، وفتح آفاق جديدة لصناعة تحتاج دائمًا إلى التجدد.