في خضم التحولات السياسية والاقتصادية، التي تشهدها منطقة القرن الإفريقي، تأتي العلاقات بين الصومال وإثيوبيا لتُشكل محورًا رئيسيًا في فهم الديناميكيات الإقليمية المعقدة، فبعد سنوات من التوترات والتحديات الدبلوماسية، تلوح في الأفق فرصة جديدة لتطبيع العلاقات مع زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي "آبي أحمد" إلى مقديشو، 27 فبراير 2025، باعتبارها الزيارة الأولى منذ الاتفاق على مذكرة التفاهم المشتركة الموقعة بين رئيس وزراء إثيوبيا وزعيم أرض الصومال موسى بيهي عبدي، 1 يناير 2024، الذي يقضي بالسماح لإثيوبيا بتأجير أكثر من 12 ميلًا من الوصول البحري حول ميناء بربرة لمدة 50 عامًا للبحرية الإثيوبية مقابل اعتراف إثيوبيا بمنطقة أرض الصومال "صوماليلاند" كدولة مستقلة.
ولم تكن هذه الزيارة حدثًا دبلوماسيًا عابرًا فحسب، بل فرصة حاسمة لإعادة رسم خريطة التحالفات الإقليمية في القرن الإفريقي في وقت تشهد المنطقة تحولات دراماتيكية على صعيد التوازنات السياسية، وفتح أبواب واسعة لمفاوضات ترعاها وساطة تركية تسعى لتسوية الخلافات القائمة. في ظل هذه المعطيات، تتعاظم التساؤلات حول حدود هذا التقارب، الأبعاد الاستراتيجية التي يحملها، والتحديات التي قد تقف في طريق نجاحه. فهل سيكون هذا التقارب بداية لتحول نوعي في العلاقات بين الصومال وإثيوبيا، أم أنه مجرد تنسيق دبلوماسي مؤقت في إطار معادلة إقليمية شديدة التعقيد؟
خطوات التقارب
تستمر العلاقات بين الصومال وإثيوبيا في التعافي بعد الأزمة الدبلوماسية، التي نشبت 1 يناير 2024، إذ شهدت الفترة الأخيرة سلسلة من خطوات التقارب، التي تُمثل جهودًا ملحوظة نحو تحسين العلاقات بين البلدين، واتضح ذلك من خلال:
(&) إعلان أنقرة 11 ديسمبر 2024: يمثل إعلان أنقرة تحولًا دبلوماسيًا مهمًا في العلاقات بين الصومال وإثيوبيا، إذ تم تأكيد احترام السيادة والوحدة واستقلال الأراضي لكل طرف وفقًا لمبادئ القانون الدولي ومواثيق الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي، كما تضمن الإعلان إصرار الصومال وإثيوبيا على تجاوز الخلافات التاريخية وتعزيز التعاون لتحقيق الازدهار المشترك، وأكد الإعلان تقدير الصومال لتضحيات الجنود الإثيوبيين في بعثات الاتحاد الإفريقي، مع الاعتراف بأهمية تأمين وصول إثيوبيا إلى البحر مع احترام السيادة الصومالية. وفي إطار هذا التفاهم، تم الاتفاق على بدء مفاوضات فنية للوصول إلى اتفاق نهائي يفتح أفقًا جديدًا للتعاون الأمني والاقتصادي بين البلدين بوساطة تركيا. وبموجب الإعلان، تعهدت إثيوبيا بإرسال 2500 جندي للمشاركة في بعثة الاتحاد الإفريقي لدعم الاستقرار في الصومال (AUSSOM)، وهي القوة التي حلت محل بعثة ATMIS السابقة. تُعد هذه الوحدة الإثيوبية ثاني أكبر قوة في البعثة بعد الوحدة الأوغندية التي تضم 4500 جندي، وتهدف البعثة إلى دعم الجيش الصومالي في محاربة الجماعات الجهادية وتعزيز الأمن والاستقرار في البلاد.
(&) زيارة الرئيس الصومالي إلى إثيوبيا: 11 يناير 2025، زار الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود، العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، لمتابعة تنفيذ اتفاق أنقرة، الذي يهدف إلى تخفيف حدة التوتر بين البلدين عقب الخلاف حول اعتزام إثيوبيا إنشاء قاعدة عسكرية في إقليم "صوماليلاند"، كما ناقش سبل تعزيز التعاون المشترك. وأسفر اللقاء عن بيان مشترك يُقر استئناف العلاقات الدبلوماسية الكاملة، وتوسيع آفاق التعاون الاقتصادي والاستثماري، إضافة إلى تطوير البنية التحتية لدعم التجارة وتحقيق النمو الاقتصادي.
(&) زيارة رئيس وزراء إثيوبيا إلى الصومال: 27 فبراير 2025، قام رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، بزيارة رسمية إلى العاصمة الصومالية مقديشو، إذ التقى الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود، في خطوة دبلوماسية تهدف إلى ترسيخ أسس المصالحة وتعزيز التعاون الاستراتيجي بين البلدين. وأكد البيان المشترك الصادر عقب اللقاء التزام الجانبين بتوطيد العلاقات الثنائية عبر تعزيز التعاون الدبلوماسي والاقتصادي والأمني، وتنفيذ مشاريع بنية تحتية مشتركة تعزز التكامل الإقليمي. كما شدد الطرفان على أهمية احترام سيادة الصومال، والتزامهما بالحوار البناء في إطار "إعلان أنقرة"، الذي يهدف إلى إيجاد حلول مستدامة للخلافات، لا سيما فيما يتعلق بإقليم أرض الصومال. وفي السياق الأمني، رحب الزعيمان بالتفاهمات العسكرية بين الجيشين الوطنيين، معتبرين إياها خطوة جوهرية نحو ترسيخ الاستقرار الإقليمي ومكافحة التهديدات المشتركة، ما يعكس رؤية متكاملة لمستقبل يعمه السلام والتعاون في القرن الإفريقي.
تحديات حاضرة
على الرغم من أهمية التقارب بين الصومال وإثيوبيا، إلا أن هناك مجموعة من التحديات التي قد تعرقل تحقيق أهدافه، وتشمل:
(&) المعارضة الداخلية في الصومال: يتعرض الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود، لانتقادات حادة، لعدم انتزاع التزام واضح من إثيوبيا بعدم التدخل في إقليم أرض الصومال "صوماليلاند"، إذ يرى المعارضون أن موافقته على تحسين العلاقات والتقارب دون ضمانات قوية، قد يُفهم على أنه تنازل ضمني عن حقوق الصومال في الإقليم المتنازع عليه، بجانب خشية الكثير من مَنح إثيوبيا موطئ قدم بحري لتصبح خطوة نحو نفوذ دائم، ما يعيد إلى الأذهان التدخلات الإثيوبية السابقة في الشؤون الصومالية، ما يتمخض عنه توترات دبلوماسية بين مقديشو وأديس أبابا، وربما إعادة النظر في الاتفاق ككل.
(&) الضغوط الخارجية من دول الجوار: تعتمد إثيوبيا حاليًا على جيبوتي كميناء رئيسي، وأي اتفاق يُضعف هذه العلاقة قد يواجه رفضًا دبلوماسيًا أو اقتصاديًا من جيبوتي. إضافة إلى إريتريا التي قد ترى في التقارب الصومالي الإثيوبي محاولة لعزلها سياسيًا واقتصاديًا، ما قد يدفعها إلى دعم المعارضة الصومالية المناهضة للاتفاق.
(&) تحديات أمنية: لا تزال حركة شباب المجاهدين الصومالية تسيطر على أجزاء من الصومال، وتُعد من أخطر الجماعات الإرهابية بالمنطقة، وترى في هذا التقارب تهديدًا مباشرًا لها، ما يدفعها إلى تصعيد هجماتها ضد المصالح الإثيوبية والصومالية، وأي تعاون عسكري بين البلدين قد يصبح هدفًا للهجمات الإرهابية، وقد يضعف ثقة الحكومتين في استمرار الاتفاق. بجانب ذلك، لا نغفل النزاعات الحدودية غير المحسومة بين البلدين خصوصًا منطقة أوغادين التي تطالب بها بعض الفصائل الصومالية، ما يعود بالسلب على استمرار التقارب.
حدود التقارب
عند تقييم خطوات التقارب، يمكن تحديد الوضع بين احتمالين:
(&) التقارب الفعّال: في هذا الاحتمال، يتطور التقارب بين الصومال وإثيوبيا إلى شراكة استراتيجية شاملة تغطي مجالات الأمن والاقتصاد والسياسية، ومن ثم تحقيق نتائج إيجابية لكليهما، ويتحقق هذا في حالة تم الالتزام ببنود الاتفاق دون معوقات سياسية أو أمنية كبرى، وإذا استفاد الصومال اقتصاديًا من التعاون كتطوير البنية التحتية للموانئ والنقل، وإذا تمكنت الشراكة الأمنية من إضعاف حركة شباب المجاهدين الصومالية والجماعات المسلحة الأخرى، أو تمكنت الدولتان من تجاوز المعارضة الداخلية والخارجية للاتفاق عبر ضمانات دبلوماسية واقتصادية.
(&) التنسيق المحدود: يبقى التقارب بمثابة تفاهم تكتيكي محدد وترتيب مرحلي يخدم أهدافًا قصيرة المدى دون أن يتطور إلى علاقة استراتيجية مستقرة، ويُعد التنسيق محدودًا حال واجه الاتفاق عقبات سياسية داخل الصومال أو إثيوبيا كاحتجاجات أو رفض برلماني، أو عدم ترجمة التعاون الأمني إلى نتائج ملموسة على أرض الواقع، أو ظلت إثيوبيا تعتمد بشكل رئيسي على جيبوتي للوصول إلى البحر، ما يجعل الاتفاق مع الصومال ذا قيمة محدودة.
ووفق المعطيات الراهنة، يبدو أن الاحتمال الثاني "التنسيق المحدود" الأكثر ترجيحًا، ومن المتوقع أن يواجه الاتفاق تحديات كبيرة تمنع تحوله إلى شراكة استراتيجية متكاملة. ومع ذلك، إذا نجح البلدان في تجاوز العقبات، فقد يكون هناك مجال لتطور العلاقة إلى تقارب فعّال.
ختامًا، يمكن القول إن هذا التقارب بين الصومال وإثيوبيا بداية لمرحلة من التنسيق المحدود مع إمكانية تطوره إلى تعاون أكثر فعالية على المدى الطويل، ففي الوقت الراهن، قد تكون الزيارة الأخيرة لآبي أحمد خطوة أولى نحو تجاوز التوترات السابقة، لكنها ستظل محكومة بتحديات عاصفة مثل مسألة الوصول البحري لإثيوبيا عبر أرض الصومال، وهي نقطة خلاف حساسة قد تعرقل أي تقدم ملموس. وبينما تبقى الوساطة التركية عاملًا مساعدًا في تهدئة الأوضاع، إلا أن نجاح هذا التقارب مرهون بقدرة الطرفين على تسوية القضايا الخلافية وتحقيق مصالح مشتركة بعيدة المدى. فإذا تمكنت الأطراف المعنية من تجاوز هذه العقبات، فقد يتطور هذا التنسيق إلى تعاون فعّال يحقق الاستقرار بمنطقة القرن الإفريقي.