كشفت صحيفة "التليجراف" البريطانية عن تفاصيل مشروع سكة حديد ضخم يمتد على مسافة 800 كيلومتر، يربط دول البلطيق بالعاصمة البولندية وارسو. إلا أن المشروع الذي يحمل اسم "ريل بالتيكا" لا يقتصر على كونه رابطًا اقتصاديًا وتجاريًا، بل يمثل تحولًا جيوسياسيًا عميقًا في المنطقة، ويشكل عصبًا لوجستيًا حيويًا لحلف الناتو في مواجهة أي تهديدات روسية محتملة.
من مشروع اقتصادي إلى ضرورة عسكرية
تشير الصحيفة البريطانية إلى أن بداية قصة المشروع العملاق كانت في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي، إذ تطلعت دول البلطيق إلى تعزيز ارتباطها بالغرب.
وأوضحت "التليجراف" أن العمل يجري حاليًا على قدم وساق في ضواحي العاصمة الاستونية تالين، حيث يعمل العمال الاستونيون في درجات حرارة تحت الصفر لبناء المرحلة الأولى من المشروع.
وبحسب الصحيفة البريطانية، فإن المشروع الذي كان في البداية رمزًا لتوجه استونيا نحو أوروبا بعد انضمامها للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو في 2004، اكتسب أهمية استراتيجية حاسمة بعد الحرب الروسية الأوكرانية في 2022.
القدرات العسكرية والأهمية الاستراتيجية
يكشف بريت برول، رئيس الاتصالات في المشروع، في حديثه للتليجراف عن الأهمية العسكرية الفائقة للمشروع، موضحًا أن "ريل بالتيكا" سيمثل العمود الفقري لعمليات نقل قوات الناتو في المنطقة.
ويضيف أن المشروع سيحدث تحولًا جذريًا في القدرات اللوجستية للحلف، إذ سيقلص زمن نقل المعدات العسكرية من أسبوع كامل إلى 24 ساعة فقط، وهو ما يمثل تطورًا نوعيًا في القدرة على الاستجابة السريعة لأي تهديدات محتملة.
تحرر من الإرث السوفيتي
بحسب ما تشير الصحيفة، فإن المشروع يمثل تحولًا تاريخيًا عن نظام السكك الحديدية الذي بنته الإمبراطورية الروسية في القرن التاسع عشر لربط دول البلطيق بشبكة موسكو التجارية ومجال نفوذها.
اليوم، تتلاشى هذه الروابط الإمبريالية تدريجيًا، مع استبدال النظام الروسي بخطوط سكك حديدية جديدة متوافقة مع المعايير الأوروبية الأضيق المستخدمة في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي.
التعاون الدولي وإسهام بريطانيا
يحظى المشروع بدعم دولي واسع النطاق، ويمثل قصة نجاح بريطانية في مرحلة ما بعد البريكست. فإلى جانب التمويل الأوروبي والإمدادات من إسبانيا والنمسا، تشارك بريطانيا بقوة في المشروع من خلال توريد الفولاذ المستخدم في بناء السكك، كما أن محطة القطار المستقبلية في تالين، التي تتميز بتصميمها العصري، صممها مكتب زها حديد للهندسة المعمارية في لندن.
التحديات الأمنية والتوترات الحدودية
تكشف "التليجراف" عن تصاعد التوترات في المنطقة الحدودية، خاصة في مجتمع نارفا الحدودي، بعد أن أزال حرس الحدود الروس في مايو الماضي عشرين علامة عائمة تحدد الحدود الاستونية-الروسية.
وتنقل الصحيفة عن الوزير الاستوني للبنية التحتية، فلاديمير سفيت، قوله إن "في هذا الجزء من العالم، لا نخشى كلمة حرب"، مضيفًا أن القدرات العسكرية لمشروع "ريل بالتيكا" ستجعل القوات الروسية تفكر مرتين قبل اقتحام الحدود.
مستقبل المشروع والتطلعات التوسعية
رغم التأخيرات المتعددة والجدل حول تصاعد التكاليف، يؤكد أنفار سالوميتس، الرئيس التنفيذي لمشروع "ريل بالتيكا" في استونيا، أن الحرب في أوكرانيا تظهر أن الحاجة إلى إنجاز المشروع في موعده أصبحت أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.
وتكشف "التليجراف" عن مناقشات جارية لتمديد الخط شمالًا إلى هلسنكي عبر خدمة مماثلة لنفق القنال الإنجليزي، مع احتمال إطلاق خدمة قطار نوم من تالين إلى برلين.
وتختتم "التليجراف" بالإشارة إلى زيارة رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر إلى استونيا للمشاركة في القمة السنوية لقوة المهام المشتركة، وهي قوة استجابة سريعة بقيادة المملكة المتحدة ستساعد الناتو في حماية الجناح الشرقي لأوروبا في حال وقوع حرب مع روسيا.
وأكد ستارمر خلال افتتاح القمة أهمية مضاعفة الدعم لأوكرانيا، مشددًا على أن الصراع يتجاوز قضية السيادة الأوكرانية ليشمل نزاعًا أوسع نطاقًا، وأنه لا يمكن السماح لروسيا بالاستفادة من عدوانها خلال هذا الصراع.