سلطت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، الضوء على صعود المتطرفين في إسرائيل، وتوحش المستوطنين ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، دون رادع من حكومات الاحتلال المتعاقبة.
وأعدت الصحيفة تقريرًا مطولًا عن النظام القضائي الخاص بالمستوطنات اليهودية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكيفية سيطرة المتطرفين على الحكومة الإسرائيلية.
واستهلت الصحيفة تقريرها، قائلة: بعد 50 عامًا من الفشل في وقف أعمال العنف التي يمارسها اليهود المتطرفون ضد الفلسطينيين، أصبح الخروج على القانون هو "القانون السائد هناك"، خصوصًا في الضفة الغربية المحتلة، حيث دفعت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لصالح توسيع المستوطنات غير القانونية.
وقالت الصحيفة، إن صحفيّيها أمضوا العديد من السنوات في إجراء مقابلات مع أكثر من 100 مسؤول حكومي إسرائيلي سابق وحالي، بما في ذلك 4 رؤساء وزراء سابقين، وبحثوا في الوثائق الحكومية السرية، وأعدوا تقارير من القدس المحتلة وتل أبيب والضفة الغربية وواشنطن، وتمكنوا من الحصول على وثائق بشأن كيفية إفلات مرتكبي الجرائم من اليهود المتطرفين من العقاب.
ويوثق هذا التقرير، كيف انتقلت الأيديولوجية المتطرفة من أطراف السلطة السياسية الإسرائيلية إلى مركزها، وهو ينقسم إلى 3 أجزاء، يتناول الأول منها نظام القضاء غير المتكافئ الذي نشأ في المستوطنات اليهودية في أراضي فلسطين، ويُظهر الثاني كيف أن المتطرفين لم يستهدفوا الفلسطينيين فحسب، بل استهدفوا أيضًا المسؤولين الإسرائيليين الذين يحاولون صنع السلام، فيما يستكشف الثالث كيف تمكنت هذه الحركة المتطرفة من السيطرة على تل أبيب نفسها.
مناشدات في مهب الريح
ويبدأ التقرير سرد الأحداث التي وقعت نهاية شهر أكتوبر الماضي في "خربة زنوتا"، وهي قرية فلسطينية صغيرة كان يعيش فيها نحو 150 شخصًا على تلة في الضفة الغربية المحتلة بالقرب من الخليل.
ولطالما كانت هذه القرية تواجه تهديدات من المستوطنين اليهود الذين حاصروها بشكل كبير، ولكن المضايقات وعمليات التخريب العرضية تصاعدت في الأيام التي تلت السابع من أكتوبر، لتشمل تعرض سكانها للضرب والتهديد بالقتل، وكل هذا دون أن يتم تقديم أي مساعدة للسكان العزل.
ووجّه سكان القرية الفلسطينية العديد من المناشدات إلى الشرطة والجيش الإسرائيليين الموجودين هناك دائمًا، لكن مطالبهم بالحماية ذهبت أدراج الرياح، واستمرّت الهجمات دون أي عقاب لمرتكبيها، وهو ما دفع السكان في أحد الأيام إلى جمع كل ما يستطيعون جمعه، ووضع عائلاتهم في شاحنات والهروب من المكان، حسب الصحيفة.
وبعد خروج سكان "خربة زنوتا"، تم جرف منازل وبساتين القرية، وقال جيش الاحتلال إن المستوطنين هم من فعلوا ذلك، فيما يقول ضابط كبير في الشرطة الإسرائيلية إن الجيش هو الفاعل.
وذكرت "نيويورك تايمز" أنه بعد وقت قصير من مغادرة سكان القرية، لم يبق من "خربة زنوتا" سوى القليل من المباني بجانب أنقاض عيادة ومدرسة ابتدائية، وكان أحد جدران العيادة يحمل لافتة تقول إنه قد تم تمويله من قبل وكالة تابعة للاتحاد الأوروبي تقدم "الدعم الإنساني للفلسطينيين المعرضين لخطر الترحيل القسري في الضفة الغربية"، فيما تم وضع علم إسرائيل بالقرب من المدرسة، وكأنه إعلان أن هذه الأرض "باتت يهودية الآن".
ورغم أن مثل هذا العنف تم توثيقه بشكل جيد في أماكن مثل "خربة زنوتا" على مدى عقود، إلا أن الحماية التي يتم توفيرها للأشخاص الذين ينفذون هذه الهجمات هي السر المظلم للقضاء الإسرائيلي.
وتقترن القائمة الطويلة من المضايقات والاعتداءات وقتل الفلسطينيين على يد المستوطنين اليهود، بتاريخ من الصمت وتجنب الرد والتحريض، من قبل المسؤولين الإسرائيليين، وفق ما أورد التقرير.
الإفلات من العقاب
ورصدت الصحيفة كيف سُمح للحركات المتطرفة الإجرامية، بالعمل مع الإفلات من العقاب، والانتقال تدريجيًا من الهامش إلى التيار الرئيسي للمجتمع الإسرائيلي، ومنه إلى أعلى هرم السلطة.
قالت "نيويورك تايمز" إن المقابلات التي أجرتها، إلى جانب الوثائق السرية المكتوبة في الأشهر الأخيرة التي اطلعت عليها، كشفت عن وجود حكومة في حالة حرب مع نفسها.
وتشير إحدى الوثائق إلى اجتماع عُقِد في شهر مارس الماضي، تحدّث فيه الجنرال يهودا فوكس، وهو رئيس القيادة المركزية الإسرائيلية، والمسؤول عن الضفة الغربية المحتلة، عن الجهود التي بذلها وزير المالية الإسرائيلي من اليمين المتطرف بتسلئيل سموتريتش، لتقويض تطبيق القانون في الأراضي المحتلة.
وكتب فوكس، أنه منذ أن تولى الأخير منصبه، "تضاءلت الجهود المبذولة لقمع بناء المستوطنات غير القانونية إلى النقطة التي اختفت فيها تمامًا"، مضيفًا أن سموتريتش وحلفاءه يحبطون نفس الإجراءات الرامية إلى تطبيق القانون، والتي كانت قد وعدت الحكومة المحاكم الإسرائيلية باتخاذها، كما أنه لم تُبذل سوى القليل من الجهود لوقف بناء هذه البؤر الاستيطانية أو العنف المنبثق منها.
وضحايا عنف المستوطنين، يواجهون نظامًا مربكًا وقاهرًا عندما يحاولون الاستغاثة، إذ إنه عادةً ما يتعين على سكان القرى الذين يطلبون المساعدة من الشرطة أن يقدموا بلاغًا بشكل شخصي إلى مركز الشرطة الإسرائيلية، الذي يقع داخل المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة، وبعد المرور عبر عمليات التفتيش والذهاب إلى المركز فإنهم ينتظرون أحيانًا لساعات حتى يأتي مترجم عربي، وبعد ذلك يُقال لهم إنهم لا يملكون الأوراق الصحيحة أو الأدلة الكافية لتقديم بلاغ.
وقال أحد كبار المسؤولين العسكريين الإسرائيليين للصحيفة، إن الشرطة تُرهق الفلسطينيين حتى لا يقدموا شكاوى.
ومع ذلك، فإنه في شهر نوفمبر الماضي، وفي ظل غياب توفير الحماية من قبل الشرطة أو الجيش، اختار السكان في "خربة زنوتا" و5 قرى مجاورة أخرى اختبار ما إذا كان تحقيق العدالة لا يزال ممكنًا من خلال الاستئناف المباشر أمام المحكمة العليا في إسرائيل.
تطهير الضفة الغربية
وقال محامو سكان القرية من منظمة "حقل" الإسرائيلية لحقوق الإنسان، إنه بعد أيام من هجوم حماس في 7 أكتوبر، اعتدت مجموعة تضم مستوطنين وجنودًا إسرائيليين على هؤلاء السكان، وهددوهم بالقتل ودمروا الممتلكات في جميع أنحاء القرية، مشيرين إلى أن الهجمات كانت جزءًا من "عملية ترحيل جماعي للسكان الفلسطينيين".
ويستغل المستوطنون، الذين يعملون مع الجنود، الحرب الحالية في قطاع غزة لتحقيق الهدف الأطول أمدًا المتمثل في "تطهير أجزاء من الضفة الغربية"، وما يساعدهم على ذلك هو التجاهل الواسع وغير المسبوق من قبل الحكومة الإسرائيلية وموافقتها الفعلية على أعمال الترحيل الجماعية هذه.
وصحيح أن المحكمة العليا في إسرائيل وافقت على النظر في القضية، لكن الإغاثة التي يطلبها سكان القرية، والتي تتمثل في تطبيق القانون، تبدو متواضعة، إذ كشفت التقارير التي اطلعت عليها "نيويورك تايمز" أنه بعد 50 عامًا من ارتكاب الجرائم دون عقاب، أصبح المستوطنون العنيفين والحكومة الإسرائيلية "وجهًا واحدًا" في كثير من النواحي، وأظهرت عينة من ثلاثين قضية في الأشهر التي تلت 7 أكتوبر، المستوى المذهل الذي وصل إليه تدهور النظام القضائي في تل أبيب.
وفي جميع القضايا التي تنطوي على جرائم متنوعة، مثل سرقة الماشية والاعتداء والحرق العمد، لم يتم اتهام أي مشتبه به بارتكاب جريمة، حتى أنه في إحدى الحالات، أطلق مستوطن النار على فلسطيني في بطنه بينما كان جندي من جيش الاحتلال يراقب الواقعة، ومع ذلك استجوبت الشرطة مرتكب الجريمة لمدة 20 دقيقة فقط، ولم يتم الاشتباه به جنائيًا، وفقًا لمذكرة عسكرية إسرائيلية داخلية، اطلعت عليها الصحيفة.
وأوردت "نيويورك تايمز"، أنه خلال مراجعتها للقضايا، استمع الصحفيون إلى تسجيلات لنشطاء حقوق إنسان إسرائيليين وهم يطالبون الشرطة بالإبلاغ عن الجرائم المختلفة المُرتكَبة ضد الفلسطينيين، ولكن في بعض التسجيلات، رفضت الشرطة الحضور إلى مكان الحادث، بدعوى أنها لا تعرف مكان القرية، حتى إنهم في إحدى الحالات، سخروا من النشطاء ووصفوهم بأنهم "مثيري الفوضى".
وأضافت الصحيفة أن العنف والإفلات من العقاب الذي أظهرته هذه الحالات كان موجودًا قبل هجوم السابع من أكتوبر بوقت طويل، حتى إنه في كل شهر تقريبًا قبل أكتوبر الماضي، كان معدل حوادث العنف أعلى مما كان عليه في نفس الشهر من العام السابق، كما وجدت منظمة "يش دين"، وهي منظمة حقوقية إسرائيلية نظرت في أكثر من 1600 حالة من حالات عنف المستوطنين في الضفة الغربية في الفترة بين عامي 2005 و2023، أن 3% فقط منها انتهت بالإدانة.
ويقول عامي أيالون، وهو رئيس الشاباك (جهاز الأمن العام الإسرائيلي) السابق في الفترة بين عامي 1996 و2000، إن هذا المستوى من الإفلات من العقاب يعكس لامبالاة القيادة الإسرائيلية منذ سنوات مضت، مضيفًا أن "الحكومة ورئيس الوزراء، يرسلون إشارة إلى الشاباك مفادها بأنه إذا قُتل يهودي، فهذا أمر فظيع، أما إذا قُتل عربي، فهذا أمر غير جيد، لكنه ليس نهاية العالم".
وردد العديد من المسؤولين الآخرين الذين أجرت الصحيفة مقابلات معهم نفس تقييم أيالون، وعن التاريخ الطويل لجرائم المستوطنين والعمليات الإسرائيلية القاسية في الضفة الغربية.
ويقول الجنرال الأمريكي المتقاعد مارك شوارتز، والذي كان يشرف على جهود الدعم الدولي للشراكة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية: "لا توجد مساءلة، ولكن هذه الأشياء تؤدي إلى تآكل الثقة، وفي نهاية المطاف تآكل استقرار وأمن إسرائيل والأراضي الفلسطينية، فالأمر لا يمكن إنكاره".
وأدى نصف قرن من السلوك الخارج عن القانون، والذي ظل دون عقاب إلى حد كبير، إلى دفع الراديكالية القومية للمتطرفين اليهود إلى مركز السياسة الإسرائيلية، وفق "نيويورك تايمز".
وتخضع الضفة الغربية لقيادة جيش الاحتلال، ما يعني أن الفلسطينيين يخضعون لقانون عسكري يمنح جيش تل أبيب والشاباك سلطة كبيرة، إذ يمكنهم احتجاز المشتبه بهم لفترات طويلة دون محاكمة أو الوصول إلى محام أو حتى دون وجود أدلة ضدهم.
كما يمكنهم التنصت على المكالمات الهاتفية وإجراء المراقبات السرية واختراق قواعد البيانات وجمع المعلومات الاستخبارية عن أي عربي يعيش في الأراضي المحتلة، مع قيود قليلة للقيام بذلك.
ويخضع الفلسطينيون أيضًا لمحاكم عسكرية، وليست مدنية، وهي المحاكم التي عادةً ما تكون أحكامها أكثر شدة بكثير عندما يتعلق الأمر باتهامات "الإرهاب"، وأقل شفافية أمام "التدقيق الخارجي".
عنف وترهيب ومصادرة الأراضي
ووفقًا لما نقلته الصحيفة عن مسؤول إسرائيلي كبير، فإنه منذ 7 أكتوبر الماضي استدعى الجيش الإسرائيلي نحو 7 آلاف من جنود الاحتياط من المستوطنين، وتم تسليمهم الزي الرسمي للجيش وكذلك تسليحهم، وأُمروا بحماية المستوطنات.
وأشار إلى أنهم تلقوا أوامر محددة وهي "لا تغادروا المستوطنات، ولا تغطوا وجوهكم، ولا تقيموا حواجز طرق دون الحصول على تصريح"، ولكن ما حدث في الواقع هو أن العديد منهم غادر المستوطنات بالزي العسكري، والأقنعة، وأقاموا حواجز على الطرق، وقاموا بمضايقة الفلسطينيين.
روى سكان قرية المغير الفلسطينية بالضفة الغربية المحتلة، كيف اجتاح مستوطنون إسرائيليون قريتهم في 12 أبريل الجاري، بأعداد أكبر وبأسلحة أكثر من أي هجوم آخر نفذوه من قبل.
وقد أدى الاستيلاء على بعض الأراضي إلى صعود حركة سياسية دينية مثل "جوش إيمونيم"، أو "كتلة المؤمنين"، والتي كانت مُصمَمة لاستيطان الأراضي التي تم احتلالها.
عقوبات أمريكية "غير كافية"
أمام تزايد العمليات الاستيطانية في الضفة الغربية، تحركت الولايات المتحدة أخيرًا للضغط على حكومة نتنياهو بشأن المستوطنين العنيفين، وفي الأول من فبراير الماضي، أصدر البيت الأبيض أمرًا تنفيذيًا يفرض عقوبات على أربعة مستوطنين بتهمة "الانخراط في نشاط إرهابي" في الضفة الغربية المحتلة.
وكان أحد الأربعة هو ينون ليفي، صاحب مزرعة ميتاريم بالقرب من الخليل، وهو الرجل الذي يعتقد المسؤولون الأميركيون والإسرائيليون أنه دبر حملة العنف والترهيب ضد سكان خربة زنوتا.
وأصدرت الحكومة البريطانية عقوباتها الخاصة بعد فترة وجيزة، قائلة، في بيان، إن الحكومة الإسرائيلية خلقت "بيئة من الإفلات شبه الكامل من العقاب للمتطرفين المستوطنين في الضفة الغربية".
وقوبلت خطوة البيت الأبيض ضد المستوطنين الأفراد، وهي الأولى من نوعها من قبل إدارة أمريكية، بمزيج من الغضب والسخرية من قبل الوزراء في حكومة بنيامين نتنياهو، إذ وصف سموتريتش مزاعم إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن ضد المتطرفين الإسرائيليين بأنها "خادعة تمامًا"، قائلًا إنه سيعمل مع البنوك الإسرائيلية لمقاومة الامتثال للعقوبات.
ويشير تقرير "نيويورك تايمز" إلى أن الحرب "قد تكون هي هدف أعضاء اليمين المتطرف الإسرائيليين"، ويقول رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت، إن العديد من أعضاء اليمين المتطرف في تل أبيب "يريدون الحرب"، مضيفًا أنهم "يريدون انتفاضة، لأنها ستكون الدليل القاطع على أنه لا توجد طريقة لصنع السلام مع الفلسطينيين، وأن هناك طريقًا واحدًا فقط للمضي قدمًا، وهو تدميرهم".