الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

أبعاد جولة الرئيس الصيني الأوروبية

  • مشاركة :
post-title
الرئيسان شي وماكرون في باريس

القاهرة الإخبارية - د. مبارك أحمد

تأتي الجولة الأوروبية للرئيس الصيني شى جين بينج في الفترة من 5 إلى 10 مايو 2024، التي شملت كلًا من فرنسا، وصربيا، والمجر، بهدف الحفاظ على التقارب في العلاقات مع دول الاتحاد الأوروبي، واحتواء الأضرار والخسائر التي مُنيت بها العلاقات الاقتصادية منذ آخر زيارة له إلى أوروبا في 2019، إذ تسعى بكين لتعزيز روابطها مع أوروبا باعتبارها قطبًا اقتصاديًا عالميًا يمتلك مقومات التقدم، حيث يتجاوز حجم الاستثمارات الثنائية بينهما 250 مليار دولار، في حين تحاول الحكومات الأوروبية الحد من الاعتماد على السلع الصينية الرخيصة التي تُغرق الأسواق وتُنافس الصناعات المحلية في تلك الدول، بما جعلها تتجه نحو مزيد من الإجراءات الحمائية، كما تعتبر الدول الأوروبية أيضًا الصين منافسًا لا يمكن عزله دوليًا في ظل عملية التشبيك الاقتصادي بين الجانبين وتداخله على مستوى الاقتصاد العالمي ككل، بما جعل العديد من التقديرات تشير إلى أهمية مبدأ التعاون التنافسي في العلاقات الصينية الغربية بشكل عام ومع الولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص.

محطات الزيارة

بدأت جولة الرئيس الصيني شي جين بينج الأوروبية بزيارة فرنسا كمحطة أولى في 5 مايو 2024، التي تتزامن مع ذكرى مرور 60 عامًا على تدشين العلاقات الدبلوماسية الفرنسية الصينية، التي تعكس مسيرة من التعاون المتبادل سواء على المستوى الاقتصادي أو على مستوى التوجهات الاستراتيجية الرامية لتعزيز الاستقرار العالمي، لا سيما أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تبنى رؤية فرنسية تنادى بإعطاء أولوية للمفاوضات لحل الصراع الروسي الأوكراني (قبل أن يثير الجدل بطرح فكرة إرسال قوات برية لدعم أوكرانيا ومواجهة التمدد الروسي)، وهي الرؤية التي يتبناها الرئيس الصيني، بما جعل بكين تطرح مبادرة متكاملة للسلام بين روسيا وأوكرانيا انتقدتها الدول الأوروبية، واعتبرتها أقرب لمبادئ القانون الدولي منها إلى إجراءات محددة لحسم تسوية الصراع سلميًا.

واشتملت زيارة الرئيس الصينى إلى فرنسا على لقاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حيث أكد "شي" أن العلاقات بين البلدين كانت في طليعة علاقات الصين مع الدول الغربية الكبرى على مدى الستين عامًا الماضية، معربًا عن استعداد الصين لتعزيز الصداقة مع فرنسا، وتعزيز الثقة السياسية المتبادلة، وتعميق التبادلات والتعاون في مختلف المجالات.

وجاءت المحطة الثانية في زيارة الرئيس الصيني شي جين بينج إلى صربيا في 7 مايو 2024، وتزامنت مع ذكرى مرور 25 عامًا على قصف حلف شمال الأطلنطي "الناتو" للسفارة الصينية في بلجراد 1999، وأكد الرئيس الصيني في مقال له نشرته جريدة "بوليتيكا" الصربية بمناسبة الزيارة، بأنه قبل 25 عامًا من اليوم قصف الناتو بشكل صارخ السفارة الصينية في يوغسلافيا، مؤكدًا أن بكين لن تسمح بتكرار تاريخ مأساوي إلى هذا الحد، وأشاد "شي" في الوقت ذاته بالصداقة الصلبة بين الصين وصربيا التي "سُطرت بدماء أبناء بلدينا". وقد تميزت العلاقات الاقتصادية بين الصين والمجر ودول البلقان بشكل عام بضخ مليارات الدولارات في مجالي التعدين والصناعة، حيث وقّعت بكين وبلجراد في 2023 اتفاقية للتجارة الحرة، وفي عام 2022 جاءت ثلث الاستثمارات الأجنبية في صربيا من الصين التي بلغت استثماراتها فى بلجراد ما يقرب من 1,5 مليار دولار. وجاءت المجر المحطة الثالثة والأخيرة للرئيس الصيني "شي" في 9 مايو 2024 بالتزامن مع الذكرى الـ75 لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وكانت المجر من أوائل الدول التي اعترفت وأقامت علاقات دبلوماسية مع جمهورية الصين الشعبية في عام 1949.

دلالات متعددة

تعكس جولة الرئيس الصيني شى جين بينج الأوروبية العديد من الدلالات لعل أهمها:

(*) تبديد المخاوف الأوروبية: يسعى الرئيس الصيني شي جين بينج لترجمة مبادرات الصين التي تطرحها على المستوى الدولي، التي تؤكد أهمية الاستقرار والتعاون التنموي العالمي بين الأقطاب الاقتصادية، وذلك لتبديد المخاوف الأوروبية بشأن الطاقة الإنتاجية المفرطة في الصين، واحتمالية توظيفها للهيمنة على الاقتصاد الدولي، وهو ما حذّرت منه وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين خلال لقائها مع قادة الحزب الشيوعي في بكين من أن الطاقة الفائضة الصينية تمثل مشكلة للعالم، وهي رسالة رددها قادة أوروبيون منهم المستشار الألماني أولاف شولتس.

واعتبر الرئيس "شي" بأن المشكلة المسماة فائض القدرة لدى الصين غير موجودة من حيث الميزة النسبية أو في ضوء الطلب العالمي، مشيرًا إلى أن القطاع الصيني للطاقة الجديدة أتاح زيادة العرض العالمي وتخفيف الضغوط التضخمية العالمية.

الرئيسان الصيني والصربي

وفي مقابل تلك المخاوف يتبلور انقسام أوروبي في كيفية التعامل مع الصعود الاقتصادي للصين، ففى حين تنضم قوى أوروبية لتحالفات واشنطن لوقف ذلك التمدد، وفي مقدمتها بريطانيا، حيث دخلت في تحالف "أوكوس"، الذي يضم كلًا من الولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا بهدف إمداد الأخيرة بتكنولوجيا الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية بهدف تطويق الصعود الصيني في منطقة الإندوباسيفيك، تتبنى دول أخرى مثل ألمانيا رؤية طرحتها في استراتيجيتها للأمن القومي كمنظور للتعامل مع الصين يقوم على أنها شريك لا يمكن الانفصال عنه ومنافس لا يمكن عزله اقتصاديًا، ويحتاج للتعامل معه بحذر، وتؤيد هذا الطرح العديد من العواصم الأوروبية، التي تخشى من الخلل التجاري الهائل والتدفق الكبير لصادرات التكنولوجيا الخضراء الصينية الرخيصة على اقتصادات دول الاتحاد الأوروبي، وهو ما جعل بروكسيل تقوم بفتح سلسلة من التحقيقات بشأن حزم الدعم التي تقدمها الحكومة الصينية لبعض القطاعات الصناعية خصوصًا السيارات الكهربائية، إذا يخشى الأوروبيون والأمريكيون أيضًا من أن هذا الدعم الحكومي يقوّض المنافسة، وقد يلحق ضررًا بالاقتصاد العالمي.

(*) تدعيم الاستقلالية الأوروبية: يشكّل تبادل الزيارات بين القادة الأوروبيين والمسؤولين الصينيين توجهًا متزايدًا تدعمه بكين بهدف تعزيز الاستقلالية الأوروبية عن الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي يعزّز من تسهيل التقارب الصيني الأوروبي، ففي أبريل 2023 جاءت زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الصين برفقة وفد تجاري رفيع المستوى لممثلي مجتمع المال والأعمال الفرنسيين، ونجح في توقيع 18 اتفاقية تعاون بين الشركات الصينية والفرنسية، كما أثارت تصريحاته ردود أفعال واسعة النطاق عندما تحدث للصحفيين خلال تلك الزيارة قائلًا إن أوروبا لا ينبغي لها أن تصبح تابعًا للولايات المتحدة الأمريكية.

وجاءت زيارة المستشار الألماني أولاف شولتس إلى الصين مرتين منذ توليه مقاليد السلطة أواخر 2021؛ الأولى في عام 2022، والثانية في أبريل 2024 لتترجم ما وصل إليه مستوى العلاقات بين الدولتين، إذ تعد ألمانيا أكبر شريك تجاري للصين في الكتلة الأوروبية، حيث تستحوذ الصين على نحو 10,3% من الاستثمارات الألمانية الخارجية، بقيمة استثمارات مباشرة تبلغ 11,9 مليار يورو، في عام 2023 بزيادة سنوية قدرها 4,3% بحسب تقديرات المعهد الاقتصادي الألماني.

(*) تعزيز المصالح الاقتصادية: تمثل المصالح الاقتصادية الرافعة الرئيسية للعلاقات الأوروبية الصينية، حيث تعد فرنسا ثالث أكبر شريك تجاري للصين في الاتحاد الأوروبي، كما تعد الصين أيضًا رابع أكبر شريك تجاري لفرنسا في العالم بعد ألمانيا وبلجيكا وإيطاليا، وقد وصل التبادل التجاري الصيني الفرنسي في 2023 إلى ما يقدر بـ78,9 مليار دولار، وبلغت صادرات الصين إلى فرنسا 41,6 مليار دولار، في حين وصلت صادرات فرنسا إلى الصين 37,3 مليار دولار.

ووصلت الاستثمارات الفرنسية المباشرة في الصين إلى ما قيمته 21,64 مليار دولار بنهاية 2023 لتصبح في المرتبة الثالثة بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بعد ألمانيا وهولندا بحسب بيانات وزارة التجارة الصينية، وتركزت الاستثمارات الفرنسية في مجالات مثل السيارات الكهربائية، ومستحضرات التجميل، والأغذية، وطاقة الهيدروجين، والطيران، والفضاء.

وبلغت، في المقابل، الاستثمارات الصينية المباشرة في فرنسا بنهاية 2023 ما يقارب 4,84 مليار دولار، وتركزت في مجالات الصناعة وتكنولوجيا المعلومات والنقل والبنوك والفنادق والسياحة، إلى جانب مشاركة الصين في بناء وادي البطاريات الأوروبي في باريس.

وقد أكد الرئيس الصيني في مقال نشرته صحيفة "لوفيجارو" الفرنسية بأن البلدين قادران على تعزيز تعاونهما في مجال الابتكار من أجل دعم التنمية الخضراء، كما هو الحال مع مصانع إنتاج البطاريات، معربًا عن أمله في أن توفر فرنسا للشركات الصينية مناخ أعمال عادل ومتساوي، كما يعوّل الرئيس الصيني من زيارته إلى بودابست على موقف رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان لإحباط القيود التجارية الأوروبية على الصين، حيث كانت المجر من أوائل الدول التي عارضت في البداية خطة الاتحاد الأوروبي، لإدراج بعض الشركات الصينية في القائمة السوداء لتوريد التكنولوجيا المستخدمة في الأسلحة الروسية، لذلك يعتبر البعض أن المجر في ظل قيادة فيكتور أوربان تعد أحد أسباب إرباك، وربما تعطيل خطط الاتحاد الأوروبي لدعم أوكرانيا في مواجهة روسيا.

وقد شبّه الرئيس الصيني العلاقات الثنائية بين بلاده والمجر في مقال له نشرته صحيفة "مجري نمزيت" بالتزامن مع الزيارة "بأنها رحلة سياحية ذهبية"، مشيدًا بالصداقة بين البلدين اللذين "تجاوزا المحن"، ومشيرًا إلى "تحدى البلدين للنظام الجيوسياسي معًا في سياق دولي غير مستقر، ورسم طريقهما كدول ذات سيادة واستقلال كامل". في إشارة إلى الاستراتيجية التي يعتمدها رئيس الوزراء المجري أوربان داخل الاتحاد الأوروبي.

شي وفيكتور أوربان

(*) حلحلة الصراع الروسي الأوكراني: قدّمت الصين في فبراير 2022 مبادرة لتسوية الصراع الروسي الأوكراني جاءت تحت عنوان موقف الصين تجاه الحل السياسي للأزمة، وتناول 12 بندًا تمثل القضايا التالية: (احترام سيادة الدول، والتخلي عن عقلية الحرب الباردة، ووقف الأعمال العدائية، واستئناف محادثات السلام، وإيجاد حل للأزمة الإنسانية، وحماية المدنيين وتبادل الأسرى، والحفاظ على سلامة المنشآت النووية، وتقليص الأخطار الاستراتيجية، وتسهيل تصدير الحبوب، ووقف العقوبات أحادية الجانب، والحفاظ على استقرار سلاسل التوريد، ودعم مرحلة إعادة الإعمار)، غير أن تلك المبادرة لاقت انتقادات متعددة من الدول الأوروبية واعتبرتها أقرب لمبادئ عامة للقانون الدولي وتفتقد لإجراءات ملموسة لتسوية الصراع، لذلك يطالب القادة الأوروبيون بكين بمواصلة ضغوطها على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لوقف الحرب، واللجوء للمفاوضات لإنهائها واستعادة الاستقرار، وهو ما أكد عليه الرئيس الصيني شي جين بينج في مقاله بصحيفة "لوفيجارو" الفرنسية آملًا أن يعود السلام والاستقرار بسرعة إلى أوروبا واعتزامه العمل مع فرنسا والمجتمع الدولي برمته لإيجاد سبل جيدة لحل الأزمة الروسية الأوكرانية.

(*) نحو عالم متعدد الأقطاب: تتبنى الصين الدعوة إلى عالم متعدد الأقطاب يراعي مصالح الدول الصاعدة نحو قمة النظام الدولي. وقد أكد الرئيس الصيني "شي" خلال زيارته إلى فرنسا على هذا المسعى داعيًا البلدين أن يظلا ملتزمين بالروح التي أرشدت إنشاء علاقاتهما الدبلوماسية، وهي تحديدًا الاستقلالية والتفاهم المتبادل، وبُعد النظر والمنفعة المتبادلة، وإثرائها بـ"السمات الجديدة للعصر الجديد"، كما يتعين عليهما مواصلة فهم بعضها البعض وتعزيز التعايش المتناغم بشكل مشترك.

ودعا "شي" الجانبين إلى تبني نظرة بعيدة المدى والعمل معًا من أجل عالم متعدد الأقطاب متساوٍ ومنظم، حيث يتعين عليهما مواصلة التعاون المربح لهما ومعارضة الانفصال أو قطع سلاسل الإمداد أو إقامة الجدران والحواجز.

مجمل القول؛ تأتي جولة الرئيس الصيني شي جين بينج الأوروبية لتعكس الرغبة الصينية في تعميق العلاقات مع الدول الأوروبية باعتبارها قطبًا اقتصاديًا عالميًا يدعّم مكانة الصين التي نجحت في تشبيك اقتصادها بالاقتصادات الغربية الأوروبية والأمريكية معًا، بما يجعل معها عملية عزل الاقتصاد الصيني أقرب إلى تفكيك الاقتصاد العالمي ككل، وهى تكلفة تهدد بالانهيار الاقتصادي، كما كشفت نتائج الزيارة أن الصين تمتلك استراتيجية متكاملة للتعامل مع الدول الأوروبية تجعل من المصالح الاقتصادية القاطرة الرئيسية لمجمل العلاقات، في حين تفتقد أوروبا لوجود استراتيجية موحدة إزاء الصين، الأمر الذي أقره الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعدم وجود إجماع لدى الأوروبيين بشأن الاستراتيجية الواجب اتباعها مع بكين لأن بعض الأطراف لا تزال ترى الصين كسوق للبيع، في حين أنها تقوم بالتصدير بشكل هائل نحو أوروبا.