يدخل الاقتصاد الأوروبي إلى نفق الشتاء المظلم، مع شبح أزمات طاحنة تحوم حوله متمثلة في شتاء قارس وأزمة الطاقة، التي ينتج عنها مخاوف من ركود محتمل، بالإضافة إلى ارتفاع نسبة التضخم ونقص السلع والغذاء، وغموض حول مستقبل الحرب الروسية-الأوكرانية، مما يتعين على صناع القرار السياسي في الاتحاد الأوروبي أن يتحملوا المسؤولية عن الانحدار المطول المتوقع لنفوذهم الاقتصادي الجماعي.
مما لا شك فيه أن الصدام العسكري بين روسيا وأوكرانيا، والتعافي غير المتكافئ من وباء كوفيد-19 والجفاف في قسم كبير من القارة، قد تآمروا جميعًا لخلق أزمة طاقة حادة، وارتفاع التضخم بنسبة جنونية لم تشتهدها القارة العجوز لعقود.
نورد ستريم 1
يشكل انفجار خط أنابيب "نورد ستريم 1" إحدى فصول الأزمة التي تحدّق بالقارة، حيث كانت يمثل شريان الحياة للصناعة الأوروبية وعشرات الآلاف من الأسر الأوروبية، التي سوف تواجه انقطاع التيار الكهربائي أو تقنين الطاقة هذا الشتاء.
وحتى عام 2021، كانت أوروبا تعتمد على روسيا في احتياجاتها للغاز الطبيعي بنحو 40% فضلاً عن حصة كبيرة من احتياجاتها من النفط والفحم.
شلل صناعة السيارات
وأشارت تقارير صادرة عن الرابطة الأوروبية لمصنعي السيارات، إلى أن أزمة الطاقة في أوروبا ستؤدي إلى شلل في صناعة السيارات بالقارة العجوز، مع تسبب النقص الحاد في إمدادات الغاز والقيود المفروضة على استخدام الطاقة في تصعيد الضغوط على شركات صناعة السيارات إلى حد كبير، ومن المتوقع أن تواجه جميع شركات صناعة السيارات الأوروبية خلال الربع الأخير من العام الحالي انخفاضًا في طاقتها بنسبة 30-40%.
تقليص عدد العمال
وأشارت تقارير اقتصادية أوروبية، إلى أن مصاهر المعادن ومصانع الألومنيوم ومنتجي الأسمدة معرضون بصفة خاصة لارتفاع أسعار الغاز الطبيعي، مما يعني أن العديد من الصناعات في مختلف أنحاء أوروبا سوف تضطر إلى تقليص عدد العمال أو إغلاق إنتاجها تماما.
أسوأ من حظر النفط في 1973
وتشير بعض الإحصاءات الصادرة عن المركز الأوروبي للإحصاء "يوروستات"، إلى أن أزمة الطاقة ستؤدي لخسارة بعض دول الاتحاد الأوروبي لـ 6% على الأقل من ناتجها المحلي الإجمالي السنوي، وهو ما سيكون أسوأ من العواقب الاقتصادية التي لحقت بتلك الدول جراء حظر النفط عام 1973 بسبب الحرب، وعلى الجانب الآخر، سوف يكون لدى الأسر الأوروبية، التي اضطرت إلى دفع فواتير الطاقة المرتفعة، قدر أقل من المال لاستهلاك بنود أخرى، ما من شأنه أن يسحب اقتصاد أوروبا لمستوى متدنٍ في الأشهر المقبلة.
انخفاض التصدير وهروب رؤوس الأموال
ونتيجة لتباطؤ التصنيع في بلدان الاتحاد الأوروبي، فإن صادرات منطقة اليورو ستتقلص بنسبة كبيرة، فقد عانت اقتصادات الاتحاد الأوروبي من عجز تجاري بلغ 201 مليار يورو في النصف الأول من عام 2022، في تناقض حاد مع الفائض التجاري الذي بلغ 121 مليار يورو للفترة المماثلة من عام 2021.
وتواجه أوروبا خطرًا متزايدًا من هروب رؤوس الأموال المحلية إلى الولايات المتحدة، فواشنطن لديها احتياطيات كافية من النفط والغاز، لذا فإن اقتصادها مستقر بصورة أكبر عما تعانيها أوروبا.
الولايات المتحدة تستغل الوضع
خلال الأشهر الماضية ظل قادة الاتحاد الأوروبي غافلين عن حقيقة مفادها أن الولايات المتحدة تستغل الصراع العسكري في أوكرانيا لمصلحتها بصورة أو بأخرى، فمنذ اندلاع الصراع بين روسيا وأوكرانيا، تمكنت شركات النفط العملاقة والمصدّرة في الولايات المتحدة من صرف كميات هائلة من صادرات الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا المتعطشة إلى الطاقة.
وتشير إحصائيات صادرة عن شركة "بي بي" البريطانية إلى أن ناقلات الغاز الطبيعي المسال الأمريكية سوف تحقق أرباحًا هائلة بلغت 100 مليون دولار من خلال تصدير الغاز إلى أوروبا.
وإضافة إلى هذا، فإن الزيادة المستمرة في رفع أسعار الفائدة من الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لخفض التضخم كانت سببًا في تقليص النظام المالي في منطقة اليورو، حيث انخفضت قيمة اليورو بنحو 20 بالمئة هذا العام بينما تعهد بنك الاحتياطي الفيدرالي بمواصلة رفع أسعار الفائدة.
صندوق النقد الدولي يحذر
من كل ما سبق أصبح واضحًا حجم الضرر الذي لحق بالاقتصاد الأوروبي، بعد أن خفّض صندوق النقد الدولي توقعاته بالنمو في منطقة اليورو.
وقال صندوق النقد الدولي في تقريره: "لقد أصبحت التوقعات الأوروبية قاتمة إلى حد كبير، حيث من المتوقع أن يتباطأ النمو بشكل حاد ويظل التضخم مرتفعًا".
يتوقع الصندوق أن تنزلق ألمانيا وإيطاليا إلى الركود العام المقبل، لتصبحا أولى اقتصادات متقدمة بالفعل تنكمش في أعقاب الحرب على الجناح الشرقي لأوروبا.
وقال صندوق النقد الدولي، بينما كانت أوروبا في طريقها للخروج من الوباء نهاية العام الماضي، فإن الحرب في أوكرانيا "غيرت هذه الصورة تمامًا".
بشكل عام، من المتوقع أن يتباطأ النمو في الاقتصادات المتقدمة في أوروبا بشكل ملحوظ إلى 0.6% في عام 2023، حسبما ذكر التقرير.
بالنسبة للاقتصادات الناشئة في المنطقة، باستثناء بلدان الصراع وتركيا، من المتوقع أن يتباطأ النمو إلى 1.7 في المائة أيضًا، في حين أن الخسائر في البلدان التي تشهد نزاعات ستكون كبيرة.
وأشار الصندوق في تقريره عن منطقة اليورو إلى أن الخطر الرئيسي على المدى القريب يتمثل في حدوث مزيد من الاضطراب في إمدادات الطاقة ، والذي يمكن أن يؤدي، إلى جانب الشتاء البارد، إلى نقص في الغاز، وتقنين، وألم اقتصادي أعمق".
وأضاف الصندوق أن التضخم قد يظل مرتفعًا لفترة أطول وقد تتفاقم التوترات الاجتماعية بسبب ارتفاع التكاليف.
قال صندوق النقد الدولي، في ظل الظروف الحالية ينبغي على البنوك المركزية أن تواصل رفع أسعار الفائدة، داعياً إلى "زيادات أسرع" في الاقتصادات المتقدمة.
وأشار الكيان الاقتصادي إلى أن صانعي السياسات بحاجة إلى "السير على خط رفيع" بين مكافحة التضخم ودعم الأسر والشركات الضعيفة خلال أزمة الطاقة.
توقع صندوق النقد الدولي أن ينكمش الاقتصاد الألماني بنسبة 0.3٪ في عام 2023، متأثرًا بشدة بنقص الغاز الروسي بعد أن قطعت موسكو الإمدادات إلى أوروبا في رد على العقوبات الغربية بسبب الصراع.
في عام 2005، كان الاتحاد الأوروبي يمثل 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وقد يمثل نصف هذا المبلغ فقط بحلول عام 2030، إذا تقلص اقتصاد الاتحاد الأوروبي بنسبة 3 في المئة في عامي 2023 و 2024 ثم يستأنف معدل النمو الفاتر الذي كان عليه قبل انتشار الوباء بنسبة 0.5 في المئة سنويا، في حين تنمو اقتصادات أخرى بنسبة 3 في المئة.