خلال الأشهر السابقة، أدى تغير المناخ وتداعياته إلى انخفاض مستويات المياه في قناة بنما بشكل يقل عن أي وقت مضى، إذ تسبب في اختناقات مرورية كبيرة، والسماح لعدد أقل من السفن بالمرور، ما أدى إلى تأخير في الحركة وزيادة تكاليف الشحن.
وتسود بين خبراء الشحن حالة من عدم اليقين الآن، بشأن مستقبل إحدى النقاط التجارية الحيوية في العالم، كما يشير تقرير لـ"فورين بوليسي".
ومع توجه بنما إلى موسم الجفاف، وسيتم تشديد القيود بشكل أكبر، تستعد شركات الشحن - التي اعتمدت منذ فترة طويلة على القناة - لموجة تأخيرات أسوأ، بينما تمر ما يقرب من 5% من التجارة العالمية المنقولة بحرًا عبر القناة، التي تعد بوابة العبور لـ40% من حركة الحاويات الأمريكية وحدها.
تغير المناخ
يمتد موسم الأمطار في بنما عادة من أواخر أبريل إلى نوفمبر، لكن العام الماضي، شهد أكتوبر هطول أمطار أقل بنسبة 41% من المتوسط، ومن المتوقع أن يستمر انخفاض هطول الأمطار حتى موسم الأمطار هذا العام.
وديسمبر الماضي، انخفضت المياه في بحيرة جاتون - الخزان الرئيسي للقناة - إلى مستويات غير مسبوقة في هذا الوقت من العام، ومن المتوقع أن تتقلص مستويات المياه بشكل أكبر في الأشهر المقبلة.
ويعود الجفاف إلى ظاهرة "النينيو"، وهو نمط مناخي يتكرر كل سنتين إلى سبع سنوات، ويتميز بدرجات حرارة المحيط الدافئة.
وتؤدي ظاهرة "النينيو" إلى تعطيل دوران الغلاف الجوي، ما يؤدي إلى إضعاف أو إزاحة الرياح التي كان من الممكن أن تجلب المزيد من الأمطار إلى بنما وغيرها من البلدان الاستوائية.
ورغم أن بنما معتادة على هذه الظاهرة، إلا أن هذا الجفاف أشد من المعتاد؛ ومن المرجح أن تصبح الظواهر الجوية المتطرفة أكثر تواترًا مع تفاقم تغير المناخ.
وقال نديم فرج الله، مدير برنامج تغير المناخ والبيئة في معهد عصام فارس، التابع للجامعة الأمريكية في بيروت: "لم نشهد بعد التأثير الكامل لظاهرة النينيو".
ودفع التدافع لتسليم البضائع في الوقت المحدد شركات الشحن إلى التساؤل عما إذا كانت القناة ستظل شريانًا موثوقًا للتجارة العالمية، وأثار اهتمامًا متجددًا بإيجاد بدائل للقناة.
وينقل التقرير عن سورين أندرسن، المدير التجاري الإقليمي في وكالة "ليث إيجنسيز" للشحن: "لقد غيّر هذا - يقصد الجفاف - بشكل جذري كيفية عمل الشحن عبر القناة".
واقع جديد
في عام 2022، حققت قناة بنما إيرادات بقيمة 4.32 مليار دولار، أي ما يعادل نحو 6.6% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، لكن مع تزايد شيوع الظواهر المناخية المتطرفة، تخشى شركات الشحن والمحللون والحكومات أن أزمة قناة بنما قد لا تكون انحرافًا بل واقعًا جديدًا.
ويلفت التقرير إلى العواقب الوخيمة المتوقعة بالنسبة لبنما جرّاء جفاف قناتها الشهيرة، إذ يعتمد اقتصاد البلاد بشكل كبير على القناة.
وقد يكلف الجفاف الناجم عن ظاهرة "النينيو" القناة ما يقدر بنحو 200 مليون دولار من الإيرادات في السنة المالية الحالية، كما يهدد أيضًا الجفاف إمدادات المياه في بنما.
واستجاب المسؤولون البنميون للجفاف بفرض ضوابط مشددة على عبور القناة.
وفي الأشهر الأخيرة، قيدت هيئة قناة بنما المرور عبر القناة، من نحو 36 إلى 24 سفينة يوميًا، وهو الحد الذي سيتم تخفيضه مرة أخرى إلى 18 سفينة، فبراير الماضي.
وفي رسالة بالبريد الإلكتروني إلى مجلة "فورين بوليسي"، قالت هيئة قناة بنما إنها تنفذ تدابير إضافية لتوفير المياه.
وأوضحت أنها بدأت في إعادة استخدام المياه لغرف الهويس المختلفة، وسمحت بعبور سفينتين في وقت واحد إذا كانت السفن صغيرة بما يكفي.
كما شددت هيئة القناة أيضًا على تنظيم مدى عمق بقاء السفن في الماء؛ وتوقع الخبراء أن هذا قد يجبر بعض السفن على تقليل حمولتها بنسبة تصل 40%.
وقال الرئيس البنمي السابق مارتن توريخوس، الذي قاد مشروعًا لمضاعفة قدرة القناة في عام 2006، إن القيود غير المتوقعة - والتراكم اللاحق - دفعت مستخدمي القناة إلى القلق بشأن قدرتها المستقبلية وموثوقيتها.
تغيير المسار
قبل الجفاف، كان بإمكان السفن حجز المرور عبر القناة قبل ثلاثة أسابيع، أو الانتظار في الطابور دون حجز.
ولكن الآن، تضاعفت أوقات الانتظار 5 مرات في بعض الحالات، ويتم حجز المواعيد في بعض الأحيان قبل أشهر مقدمًا.
كما بدأت هيئة القناة في بيع أماكن بالمزاد لتخطي طابور الانتظار الطويل. وفي الآونة الأخيرة، حقق أحدهم رقمًا قياسيًا قدره 4 ملايين دولار في مزاد علني.
لكن الآن، تواجه شركات الشحن ثلاثة خيارات، وكلها مكلفة. إما الدفع مقابل تجاوز الطابور، أو الانتظار، أو إعادة التوجيه.
بالنسبة للسفن التي تختار تغيير مسارها، فإن البدائل الثلاثة الرئيسية هي قناة السويس في مصر، ومضيق ماجلان في تشيلي، ورأس الرجاء الصالح في جنوب إفريقيا.
والخياران الأخيران يتطلبان رحلات أطول بكثير، يميل كثيرون إلى الخيار الأقصر، وهو قناة السويس، التي يمكن أن تعبرها ما يصل 100 سفينة في اليوم الواحد، أي أكثر من 4 أضعاف القدرة الحالية لقناة بنما.
وأدى البحث عن خيارات بديلة إلى زيادة الاهتمام بطرق التجارة في دول أمريكا اللاتينية، التي تأمل جذب حركة المرور من قناة بنما.
ورغم رغبة دانييل أورتيجا رئيس نيكاراجوا، في إحياء خطة لبناء قناة بين المحيطات، لكن ربما تكون خطط كولومبيا أكثر واقعية.
وفي رسالة بالبريد الإلكتروني إلى مجلة "فورين بوليسي"، قالت وزارة النقل الكولومبية إن الحكومة قد طورت بالفعل المرحلة الأولى من خطط إنشاء قطار عبر المحيطات بطول 123 ميلًا مع أنفاق بطول 7 أميال لربط سواحل البلاد على المحيط الهادئ والبحر الكاريبي.
وتتوقع الوزارة أن يكون المشروع جاهزًا لطرح المناقصة بحلول نهاية عام 2024.
كما افتتحت باراجواي في عام 2022، النصف الأول من ممر طريق المحيط الحيوي، الذي سيمتد من تشيلي عبر الأرجنتين وباراجواي، وينتهي في البرازيل.
وفي 22 ديسمبر، افتتحت المكسيك جزءًا من مشروع للسكك الحديدية بقيمة 2.8 مليار دولار للتنافس مع قناة بنما عبر نقل البضائع بين المحيطين الهادئ والأطلسي.
ومع ذلك، يشكك الخبراء في أن هذه المشروعات ستشكل تهديدًا لقناة بنما في أي وقت قريب. كما أن شركات الشحن العالمية من غير المرجح أن تراهن على طرق لم يتم اختبارها، في صناعة تعتبر الموثوقية فيها أمرًا أساسيًا.