لم يستطع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، خلال زيارته الأولى إلى إيران، في 29 نوفمبر 2022، تسويق مبدأ "احترام أمن وسيادة العراق وعدم التدخل في شؤونها الداخلية"، إذ اصطدم بخطاب النظام الإيراني المتشدد تجاه عدم قدرته حتى الآن في الحفاظ على أمن الحدود وطرد الجماعات الكردية المعارضة، التي تشكل مأزقًا وكابوسًا للجمهورية الإيرانية، فضلًا عن توجه "السوداني" لإقامة علاقات متوازنة مع بعض الدول العربية، وهو ما قد ينعكس على طهران التي لطالما رأت بلاد الرافدين أهم موطئ قدم لها بمنطقة الشرق الأوسط، للتغلغل والانتشار وتعزيز نفوذها ومواجهة القوى الخارجية المعارضة لها.
وبالتالي، يمكن القول إن زيارة "السوداني" طهران، التي استمرت يومًا واحدًا فقط، قد تكون وفقًا لعدد من المراقبين، مجرد لقاء لوضع "النقاط على الحروف" فيما يخص الطريقة التي ستتعامل بها الجمهورية الإيرانية مع الحكومة العراقية الجديدة (ذات الأغلبية الشيعية) في الداخل والخارج خلال الفترة المقبلة.
دلالات التوقيت:
إضافة إلى ما سبق، يمكن التأكد أن هذه الزيارة رافقها عدد من التطورات الإقليمية، التي يمكن استعراضها على النحو التالي:
(*) خطة عراقية لإعادة نشر قوات على الحدود: قبل عدة أيام، بالتحديد في 24 نوفمبر الماضي، عقب اجتماعها مع المجلس الوزاري للأمن الوطني، اتخذت الحكومة العراقية برئاسة "السوداني" قرارًا يقضي بإعادة نشر قواتها على الحدود مع إيران وتركيا، وذلك ردًا على هجمات هاتين الدولتين خلال الفترة الماضية بالصواريخ والطائرات المسيرة المفخخة، لاستهداف مواقع المعارضين الأكراد في إقليم كردستان العراق، ومن المفترض أن يتم تنفيذ هذه الخطة بالتعاون بين القوات العراقية و"البشمركة" (قوات عسكرية خاصة بإقليم كردستان وتتبع وزارة الدفاع العراقية، ولكن بشكل إداري)، وهذا يتم من أجل الحفاظ على أمن واستقرار بلاد الرافدين ومواجهة أي تدخلات خارجية.
(*) شكوى إيرانية ضد العراق في مجلس الأمن: لم تمض ساعات من إعلان بلاد الرافدين عن إعادة نشر قواتها على الحدود مع تركيا وإيران، إلا وقامت الأخيرة ممثلة في بعثتها الدبلوماسية الدائمة لدى الأمم المتحدة، مساء 24 نوفمبر الماضي، بتقديم شكوى ضد العراق في مجلس الأمن، تحت مزاعم رفض الأخيرة تنفيذ اتفاقها وتعهداتها الرسمية السابقة مع طهران، التي تقضي بإبعاد الأحزاب الكردية التي تمثل تهديدًا لها. وأفادت البعثة الدبلوماسية الإيرانية، أنها بعثت برسالة احتجاج إلى مجلس الأمن دعت فيه حكومة "السوداني" إلى تنفيذ الاتفاقيات الموقعة مع دولتها والقيام بشن عمليات عسكرية ضد مواقع القوى الكردية في كردستان. وعليه، فإن هذا التوجه يعد محاولة من إيران لـ"حفظ ماء الوجه" أمام المجتمع الغربي، خاصة بعد الانتقادات الشديدة التي تعرضت لها جراء انتهاكتها المستمرة لسيادة العراق، وما يؤكد ذلك، ما جاء في بعض أجزاء نص الرسالة، التي منها "بعد المشاورات العديدة التي أجرتها إيران مع مسؤولي الحكومة العراقية وإقليم كردستان، لم يبق أمام إيران خيار آخر سوى استخدام حقها المبدئي في الدفاع عن نفسها في إطار القانون الدولي بهدف حماية أمنها القومي".
(*) جولات خارجية لـ"السوداني" إلى دول عربية: اُختير الأردن بدلًا من إيران ليكون المحطة الخارجية الأولى لرئيس الوزراء العراقي في 21 نوفمبر الماضي، لتكشف عن رغبة الأخير في تعزيز علاقاته مع دول المنطقة العربية، واختيار المملكة الهاشمية لكونها حليف قوى مع مصر وغيرها من الدول العربية ذات الثقل والتأثير في عملية صنع القرار بالمنطقة، كما كشف عدد من المراقبين أن عدم توجه "السوداني" إلى طهران كمحطة أولى يعكس رغبته ايضًا في وجود حكومة عراقية مستقرة تتمتع بدعم عربي وتبعد عن أي إملاءات خارجية، كما توجه أيضًا في 23 نوفمبر الماضي بزيارة إلى دولة الكويت، التي لطالما اعتبرت التدخلات الإيرانية والتركية تمثل انتهاكًا صارخًا لسيادة العراق، وفي هذه الجولات أجرى "السوداني" مباحثات تناولت سبل تعزيز علاقات هذه البلدان مع العراق، قائلًا: "حريصون على علاقات متوازنة مع جيراننا"، وهذا النهج تسبب سابقًا في توجيه طهران انتقادات إلى رئيس الوزراء العراقي السابق "مصطفي الكاظمي"، لرفضها أية مساعٍ عراقية لبناء "توازنات" مع الحلفاء والشركاء الاستراتيجيين ودول الجوار، لاعتقادها أن هذا قد يسهم في خروج بلاد الرافدين من العباءة الإيرانية.
محددات استراتيجية:
تحمل هذه الزيارة بناءً على التطورات السابق ذكرها، جملة من الدلالات والتداعيات التي ستوضح ملامح الحكومة العراقية المقبلة وعلاقتها بإيران، يمكن توضحيها على النحو التالي:
1- الرغبة الإيرانية في إثبات الولاء العراقي لها بخطوات فعلية: حملت تصريحات المرشد الأعلى "علي خامنئي" خلال لقائه "السوداني"، رسالة غير مباشرة مفادها، أن الأخير عليه أن يثبت ولائه لجمهورية المرشد، وأن أولى الطرق لذلك، هو عدم السماح لأي قوى كردية بتهديد أمن إيران سواء بالداخل أو الخارج، خاصة أن الأخيرة ترى أن الجماعات الكردية في إقليم كردستان تلعب دورًا في تأجيج الاحتجاجات المندلعة داخل طهران منذ منتصف سبتمبر الماضي، جراء مقتل الفتاة العشرينية الكردية "مهسا أميني"، وعليه فإن تأكيد "السوداني" خلال الزيارة أن بلاده ترفض استخدام أراضيها للاعتداء على دول الجوار، قائلًا: "لن نسمح للمجاميع والأطراف المناهضة للنظام في إيران والموجودة على الأراضي العراقية بالإضرار والإخلال بأمن دولة إيران"، جعله موضع تشكيك من قبل "خامنئي" الذي ردّ على تلك التصريحات بالقول: "للأسف يحدث هذا الأمر في بعض مناطق العراق.. والحل الوحيد يكمن في توسيع سيطرة الحكومة العراقية على تلك المناطق، وضرورة إحباط محاولات بعض الدول التي لا تريد حصول تعاون بين البلدين بتنفيذ جميع الاتفاقات المبرمة في وقت سابق بين طهران وبغداد".
2- محاولة تمرير تكيف الحكومة العراقية الجديدة مع أجندة طهران: تشير هذه الزيارة، التي وفقاً لبعض المراقبين تعبر عن رغبة إيرانية بعدم تغير نهجها مع العراق، وأن على حكومة السوداني التكيف مع أجندة الجمهورية الإسلامية، التي ترى أنها لن تتخلي -من خلال أذرعها المنتشرة في بلاد الرافدين- عن هذه البلد الذي يعد بالنسبة لطهران بمثابة "الرئة الاقتصادية" التي تنقذها من العقوبات الأمريكية، التي تسببت في تدهور الاقتصاد الإيراني وانهيار العملة المحلية، خاصة بعد تجميد مفاوضات إحياء الاتفاق النووي في فيينا، وفرض الدول الغربية خلال الفترة الماضية عقوبات على إيران جراء انتهاكاتها لحقوق الإنسان، ومن ناحية أخرى، فإن العراق يعد ساحة لتصفية إيران لحساباتها مع واشنطن، و"السوادني" عليه أن يدرك رفض طهران لأى وجود أمريكي في بلاده، وهو ما أكده الرئيس الإيراني "إبراهيم رئيسي" خلال اجتماعه مع رئيس الحكومة العراقية، قائلًا: "حضور الأجانب لن يؤدي إلى إيجاد الأمن بل سيفاقم من المشاكل العالقة، وذلك، ما رأيناه في حضور الولايات المتحدة في أفغانستان إذ لم يؤدِ لاستتباب الأمن، ونرى خروج القوات الأمريكية والقوات الأجنبية من العراق هو الكفيل في إحلال الأمن به".
3- تقويض التحركات الخارجية لحكومة "السوداني": إن حديث رئيس الوزراء العراقي عن سعى حكومته لإقامة "علاقات متوازنة" مع دول المنطقة بالكويت، وتأكيده على تطوير العلاقات الاقتصادية والاتفاقات المتعلقة بربط الكهرباء مع الأردن، هو أكثر ما يقلق طهران التي تريد أن تتحكم وحدها في بلاد الرافدين وفي علاقاتها. وعليه، فإن استدعاء "خامنئي" لـ"السوداني" بعد جولات الأخير الخارجية إلى دول عربية مع الإعلان عن استعداده لزيارة مصر، يعكس رغبة المرشد الأعلى في تقويض محاولات العراق في عهد الحكومة الحالية لبناء "توازنات مع بعض الدول الخارجية" قد تنعكس بشكل سلبي على إيران وأذرعها في بلاد الرافدين، خاصة أنه في وقت سابق بعثت السفيرة الأمريكية في بغداد إلى "السوداني"، رسالة مفادها أن بلادها لن تتعامل مع وزارء إرهابيين (في إشارة إلى الموالين لإيران داخل الحكومة العراقية)، بل وأقلقت الاجتماعات المتواصلة التي تعقدها السفيرة الأمريكية مع "السوداني" نظام الملالي الذي يتخوف من اتجاه الحكومة العراقية صوب أمريكا (ألد أعدائه)، وهو ما سيؤثر بالسلب على المصالح الإيرانية داخل بلاد الرافدين ويعيق تنفيذها لمخطط "تصدير الثورة".
تأسيسًا على ما سبق، يمكن القول، إن زيارة "السوداني" طهران، كشفت عن ملامح الاستراتيجية الإيرانية المقبلة في التعامل مع الحكومة العراقية الجديدة، والتي تحمل نهجًا رئيسيًا قائمًا على أن إيران، هي صاحبة الكلمة الفصل في تحديد مسار السياسة العراقية بالداخل والخارج حتى وإن اختلفت الشخصيات الحاكمة لبلاد الرافدين، وأنها يمكن في أي وقت من خلال وكلائها المنتشرين بالعراق، "قلب الطاولة" وتغير مجريات الأحداث في حال لم تتماش مع أجنداتها التوسعية، وهو ما يؤكد أن جميع تحركات "السوادني" الداخلية والخارجية، ستكون محط أنظار المرشد الإيراني خلال الفترة المقبلة.