عمل نظام الملالي منذ تولي المرشد الأعلى "علي خامنئي" مقاليد حكم الجمهورية الإيرانية عام 1989، على إعطاء الألعاب الرياضية صبغة سياسية، وربطها بالأحداث التي تشهدها البلاد، حتى وصل هذا الأمر للرياضيين الإيرانيين أنفسهم، باستخدام ألعابهم كوسيلة للتعبير عن رفضهم لحكم المرشد من جهة، والضغط عليه من ناحية أخرى، وظهر هذا بشكل واضح في الجولة الأولى من دور المجموعات ببطولة كأس العالم 2022 المقامة في قطر، حيث تلقى المنتخب الإيراني "تيم ملّي" في 21 نوفمبر الجاري خسارة مدوية أمام نظيره الإنجليزي بـ6 أهداف مقابل هدفين، وهذه الهزيمة تعد الأشد والأسوأ في تاريخه الكروي، وهو ما دفع وسائل الإعلام الموالية للنظام إلى اتهام اللاعبين بـ"عديمي الشرف".
دلالات التوقيت
تجدر الإشارة إلى أن كأس العالم 2022، يأتي في وقت تواجه فيه الجمهورية الإيرانية التي توصف بكونها "بلد مولع بكرة القدم"، جملة من الأزمات، على النحو التالي:
(*) احتجاجات جامحة في جميع أنحاء إيران: يأتي مونديال 2022 في وقت تضرب فيه الاحتجاجات جميع أرجاء الجمهورية الإيرانية، منذ وفاة الشابة الكردية العشرينية "مهسا أميني" في سبتمبر الماضي على يد شرطة الأخلاق، لعدم التزامها بقواعد الحجاب في جمهورية المرشد، وهو ما أثمر عن رفض شعبي عارم جراء استمرار الأجهزة الأمنية الإيرانية في قمع المتظاهرين وإلقاء القبض على كل من يعلن رفضه لسياسة المرشد، حتى وصل الأمر إلى اتهام النظام كعادته دول خارجية بالوقوف وراء تلك الاحتجاجات. بل وقصف النظام الإيراني مواقع للمعارضين الأكراد في إقليم كردستان العراق، مدّعيًا أن السبب هو دعم هذه القوى الكردية لتأجيج الاحتجاجات وإشعال التظاهرات بالشارع الإيراني، خاصة المدن الكردية التي تعرضت للقمع على يد الحرس الثوري.
(*) فشل مفاوضات إحياء الاتفاق النووي: يأتي كأس العالم بعد شهرين من توقف مفاوضات الاتفاق النووي بالعاصمة النمساوية فيينا في سبتمبر الماضي، وتأكيد إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، أنها لن تبذل أي جهود لإحياء هذا الاتفاق من جديد بعد انسحاب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب منه في مايو 2018، ورفض نظام الملالي حتى الآن الاستجابة لطلب واشنطن بالتوقف عن دعم التنظيمات الإرهابية في المنطقة، وهو ما دفع إدارة "بايدن" لاستمرار العقوبات الاقتصادية، التي فرضت على طهران في عهد سلفه، بل وفرض المزيد حتى يتراجع نظام المرشد عن سياسته الخارجية المعتادة، وهو ما أدى إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية وانهيار العملة المحلية الإيرانية، الأمر الذي انعكس سلبًا على الحياة المعيشية للمواطنين، مما دفعهم لتوجيه انتقادات جمّة إلى الولي الفقيه واتهموه بالفشل في إدارة "الملف النووي"، ومع ذلك ضرب الأخير بكل هذه الانتقادات عرض الحائط، معلنًا بدء تخصيب اليورانيوم إلى درجة نقاء 60 في المئة في موقع فوردو النووي.
(*) عقوبات أوروبية وأمريكية مكثفة على طهران: في الوقت الذي كانت تستعد فيه دول العالم المشاركة في مونديال 2022، لتوفير جميع الاحتياجات اللازمة للاعبيه وتهيئة الأجواء المناسبة لهم، حاول النظام الإيراني البحث عن مخرج من العقوبات الأوروبية بل والأمريكية التي نزلت عليه كـ"الصاعقة" خلال الشهريين الماضيين، جراء مقتل "مهسا أميني"، فكانت البداية بواشنطن التي عبرت عن دعمها للاحتجاجات بفرض عقوبات مشددة على طهران وعدد من مسؤوليها وأجهزتها ذات الصلة بواقعة قتل الفتاة الكردية، وتبعها الاتحاد الأوروبي ليفرض هو الآخر حزمة من العقوبات على الملالي، هذا بجانب تصويت مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في 25 نوفمبر الجاري، على فتح تحقيق بشأن قمع النظام الإيراني للاحتجاجات.
(*) رفض دولي لمشاركة "الدرونز الإيرانية" في النزاع الروسي الأوكراني: في أواخر أكتوبر الماضي، ارتفعت الأصوات الأوكرانية لمناشدة المجتمع الدولي بالتدخل لوقف دعم إيران لروسيا بالطائرات المسيرة الانتحارية "الدرونز"، وكشفت كييف أن طائرات إيرانية الصنع من نوع "شاهد-136" استخدمتها موسكو في نزاعها مع أوكرانيا، وهو ما أدى إلى إحداث أضرار كبيرة بشرية ومادية للأخيرة، التي نجحت في إسقاط أكثر من 300 مسيرة من هذا النوع، واستجابت الدول الأوروبية على الفور للنداء الأوكراني، بفرض عقوبات على طهران، كانت البداية بالمملكة المتحدة بفرضها عقوبات على 3 عسكريين إيرانيين وشركة دفاعية زودوا موسكو بالدرونز، لتتبعها سويسرا بفرض عقوبات على الشركة الإيرانية المصنعة لطائرات "شاهد".
توظيف مؤثر:
في ظل البيئة السياسية المضطربة التي تشهدها الجمهورية الإيرانية في الوقت الراهن بفضل السياسات الخاطئة للمرشد الأعلى "علي خامنئي"، شارك لاعبو المنتخب الإيراني في كأس العالم 2022، وفي المباراة الأولى تلقوا هزيمة فادحة، ليعلق البرتغالي "كارلوس كيروش" المدير الفني للمنتخب الإيراني، في مؤتمر صحفي عقب الهزيمة، قائلًا، "أنت لا تعرف ما الذي يمر به الأطفال وراء الكواليس فقط لأنهم يريدون لعب كرة القدم.. الجميع يعرف أن الظروف الحالية لبيئة لاعبي فريقي ليست الأفضل، إنهم بشر، إنهم أطفال.. لديهم حلم واحد فقط، اللعب من أجل البلد والشعب، وأنا فخور جدًا بالطريقة التي يقفون بها ويواصلون القتال، أنا فخور جدًا بما فعلوه".
ومع ذلك، عاد المنتخب الإيراني لتحقيق فوز أمام ويلز بهدفين دون رد، في 25 نوفمبر الجاري، ضمن منافسات الجولة الثانية من دور المجموعات في بطولة كأس العالم قطر 2022، ليعلق "كيروش"، قائلًا، "لقد جئنا من خسارة ثقيلة أمام إنجلترا في الجولة الأولى، وهذا يدل على أننا فريق عظيم ولدينا تماسك قوي حتى الآن"، مضيفًا: "الفرق أنني حفزت اللاعبين بالشكل اللازم من أجل هذه المباراة، من أجل أن يذهبوا للملعب ويفكروا في الفوز فقط، وألا يخافوا من مواجهة ويلز".
الواضح أنه في الفترة ما بين الخسارة والفوز، وهي أربعة أيام، انعكست تطورات الأحداث على نظام المرشد وعلى لاعبي المنتخب الإيراني وعلى المواطنين، بصورة تبين حدود التوظيف السياسي للرياضة في إيران، وذلك على النحو التالي:
(&) تغيير نسبي في موقف لاعبي المنتخب "تيم ملّي": ظهر اللاعبون في المباراة الافتتاحية أمام المنتخب الإنجليزي، وهم يرفضون غناء النشيد الوطني وعلى وجوههم حالة من الحزن بسبب الأوضاع التي تشهدها بلادهم، مما دفع التليفزيون الإيراني لقطع البث، خاصة أن هذه لم تكن المرة الأولى، فقبل انطلاق المونديال، تضامن عدد من الرياضيين مع الاحتجاجات في أواخر سبتمبر الماضي، جاء من أبرزهم مهاجم المنتخب "سردار آزمون" الذي عبر عن دعمه للاحتجاجات، وغضبه من قمع أجهزة النظام لها في رسالة على حسابه بموقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، قائًلا: "هذا لا يمكن محوه من ضميرنا. عار عليكم"، ليتم الضغط عليه فيما بعد ليقوم بحذف هذا المنشور.
وفي 28 سبتمبر الماضي، ارتدى اللاعبون "سترات سوداء" بدلاً من إبراز زيّ المنتخب كما تجري العادة خلال عزف النشيد الوطني في المباراة الودية أمام السنغال، التي أقيمت في النمسا استعدادًا لكأس العالم، ولكن في المباراة التي خاضوها ضد ويلز، غنى اللاعبون الإيرانيون مع نشيدهم الوطني قبل المباراة، ولكن على استحياء لوجود معارضين للنظام في المدرجات.
(*) ضغوط نظام الملالي لتحقيق أهداف مزعومة: بعد المباراة الأولى ظهر مسؤولو وإعلاميو نظام المرشد لتوبيخ اللاعبين واتهموهم بأنهم "عديمي الشرف"، بل وقال عضو البرلمان المحافظ علي مطهري "لم يكن ينبغي السماح بحدوث ذلك.. اللاعبون يمثلون نظام الجمهورية الإسلامية، ويجب أن يتصرفوا على هذا النحو، دون الحق في التعبير عن آرائهم الفردية، مضيفًا: "عار على وزارة الرياضة والوزير الذي أرسل مثل هؤلاء الناس لتمثيل الجمهورية الإسلامية في المونديال، وهو ما يعبر بالتأكيد عن رؤية المرشد، إذ لفت بعض المراقبين من أجهزة الملالي، إلى أنه لن يسمح مجددًا لأي شخص بإهانة النشيد الوطني للبلاد، وهذا الأمر كان كفيلًا لاتجاه النظام الإيراني لممارسة ضغوط هائلة على اللاعبين، ولكن من خلال عائلاتهم بوضعهم هدفًا للمضايقات التي ترعاها الدولة، وقد بدأت الصحافة الموالية للنظام بالفعل في شيطنتهم.
ويهدف نظام الملالي من وراء هذا الضغط على اللاعبين خاصة خلال المباراة المقبلة أمام المنتخب الأمريكي، ودفعهم لإلقاء النشيد الوطني بشغف، إلى إيصال عدة رسائل، أولها، أن الإيرانيين يكرهون الأمريكان أكثر مما يكرهون حكامهم، والرسالة الأخرى، هي صرف نظر المجتمع الدولي عن الاحتجاجات التي تشهدها إيران، من خلال الدفع بعناصره إلى الشوارع للاحتفال ليس فقط بالمنتخب ولكن بالنظام أيضًا، للزعم بأن الأمة الإيرانية "متحدة" ولا تواجهها أية انقسامات، وهو ما وقع بالفعل عقب فوز المنتخب الإيراني في المباراة الثانية، إذ بثّ التلفزيون الإيراني الرسمي أغاني وطنية، وتدفّق الإيرانيون إلى شوارع طهران سيراً وعلى الدراجات النارية وفي السيارات، كما شوهد عناصر الأجهزة الأمنية وهم يحتفلون مع المواطنين، وهذا من أجل التغطية على الاحتجاجات التي كانت مستمرة وقتها.
(*) دور أذرع الوالي الفقيه في مدرجات الدوحة: لطالما اعتمد النظام الإيراني على أذرع خارجية سواء في إيران أو في دول المنطقة لتنفيذ أجندته بالنيابة عنه، ولذلك قام المشجعين الموالين له خلال حضورهم مباراة المنتخب أمام ويلز، بمضايقة المشجعين المعارضين للنظام خارج استاد الدوحة، وصادروا ما يحملونه من شعارات مناهضة، بل هتفوا بغضب ضد أي مشجع كان يرتدي ملابس أو أعلام تحمل شعار الحركة الاحتجاجية في البلاد، (امرأة، حياة، حرية)، بل وهاجموا أي مواطن إيراني كان يجري مقابلات بشأن الاحتجاجات مع وسائل إعلام أجنبية خلال وجودهم في قطر.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن النظام الإيراني بقيادة المرشد الأعلى "علي خامنئي" لطالما اعتمد خلال السنوات الماضية على استغلال أي حدث لحشد الدعاية الذاتية للنظام وتوجيه رسائل إلى الدول الخارجية، وخاصة التي تعد "أعداءً بالنسبة لإيران"، وعليه فإنه لم يجد في ظل الأوضاع السيئة التي يشهدها داخليًا وخارجيًا، أفضل من حدث مشاركة المنتخب الوطني في منافسة كأس العالم لتوظيفه لصالحه، ولكنه فوجئ في البداية برد فعل غير متوقع من قبل لاعبي المنتخب، وهو ما دفعه لإعادة ترتيب أوراقه لعدم تفويت تلك الفرصة بدون مكاسب، ولعل الفوز الذي حققه المنتخب الإيراني أثناء مباريات المونديال في ملعب ليون بفرنسا عام 1998 خير دليل على ذلك، حيث دعا المرشد "خامنئي" وقتها اللاعب "حميد استيلي"، الذي سجل أول هدفين ضد المنتخب الأمريكي إلى مقر إقامته وقبله على جبهته، إذ اعتبر أن هذا انتصار سياسي لإيران ضد العدو الأمريكي.