لم تفُق أسواق الطاقة العالمية من الاضطرابات التي صدّرتها الحرب الروسية الأوكرانية، لتدخل في دوامة جديدة من الحسابات المعقدة مع بدء عملية "طوفان الأقصى" والتهديدات بإمكانية نقص المعروض من النفط في الأسواق بسبب الاضطرابات التي قد تلحقها الحرب الدائرة حاليًا في قطاع غزة، خاصة مع تواصل الدعم الغربي لإسرائيل بحاملة الطائرات والسفن الحربية والمقاتلات.
ويهدد تصاعد الموقف في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بزعزعة استقرار منطقة الشرق الأوسط الأوسع نطاقًا، فيما تراقب سوق النفط العالمية ما يحدث عن كثب. ويُثار حاليًا العديد من الأسئلة حول العواقب الاقتصادية لهذا الصراع، الذي لم تشهد المنطقة مثله منذ 50 عامًا أي منذ حرب 6 أكتوبر 1973 التي أشعلت أزمة النفط في سبعينات القرن الماضي.
فقد فرض الصراع الحالي، بين فلسطين وإسرائيل، نفسه على مناقشات الاجتماعات السنوية لكل من صندوق النقد والبنك الدوليين في مراكش؛ إذ توقع مسؤولو البنك والصندوق تأثيرًا على اقتصادات دول منطقة الشرق الأوسط جرّاء هذا الصراع. كما توقع أجاي بانجا رئيس البنك الدولي، حدوث تأثيرات سلبية على اقتصادات منطقة الشرق الأوسط وخارجها، بسبب الحرب الدائرة حاليًا في قطاع غزة، وذكر أن الحرب ستكون واقعًا على اقتصادات المنطقة وخارجها، بسبب ارتفاع أسعار النفط وغياب الاستقرار السياسي.
في هذا السياق، تثار العديد من التساؤلات في الأوساط الاقتصادية بصفة عامة، والنفطية منها بصفة خاصة، ويأتي في مقدمة هذه التساؤلات: ما هي التداعيات النفطية للأزمة الفلسطينية-الإسرائيلية في الوقت الراهن؟ وإلى أي مدى تختلف هذه التداعيات عن تلك المرتبطة بالأزمة الروسية الأوكرانية؟ وما هي أهم السيناريوهات المتوقعة لتحركات أسعار النفط عالميًا في الفترة المقبلة في ضوء تلك التداعيات؟ وما هي أهم الاعتبارات الجيوسياسية المؤثرة في مسار تحقق هذه السيناريوهات؟
اتجاهات أسعار النفط:
من واقع الأزمات السابقة التي شهدها العالم، ومدى تأثر أسواق النفط العالمية بهذه الأزمات والاضطرابات، يشير التحليل التاريخي إلى أن أسعار النفط ترتفع مع حدوث مثل هذه الأزمات والاضطرابات بصرف النظر عن مقدار هذا الارتفاع.
ويرى رئيس البنك الدولي، أن التأثير الاقتصادي المباشر للصراع الراهن بين فلسطين وإسرائيل، أقل من التأثير الذي أحدثه النزاع الروسي الأوكراني العام الماضي، لأن الصراع بين إسرائيل وغزة لا يؤثر -بنفس الدرجة- على صادرات النفط والحبوب والأسمدة.
وانعكست تأثيرات الأزمة الروسية الأوكرانية -منذ عام 2022 وحتى الآن- على مختلف دول وأقاليم العالم، وأسهمت هذه الأزمة في ارتفاع أسعار النفط عالميًا بمقدار 11%، وترتب على ذلك تداعيات اقتصادية طالت أغلب دول العالم، إذ تجاوزت الأسعار 120 دولارًا للبرميل في شهر يونيو العام الماضي.
وأدى استهداف منشآت نفط سعودية عام 2019، إلى ارتفاع أسعار النفط العالمية بمقدار 7%، وحدث هذا الارتفاع بمقدار 4% أثناء اضطرابات ليبيا عام 2011. وقد ترتب على حرب العراق عام 2003 كذلك، ارتفاع في أسعار النفط في الأسواق العالمية بمقدار 2%.
تداعيات محتملة:
يمكن تحديد بعض الآثار النفطية للأحداث التصعيدية في الوقت الراهن بين الفلسطينيين وجيش الاحتلال الإسرائيلي، فيما يلي:
(*) زيادة أسعار البترول في الأسواق العالمية: شهدت أسعار النفط ارتفاعًا بلغ نحو 4% خلال تعاملات الاثنين الماضي، بعد الهجوم الكبير الذي قادته حركة حماس الفلسطينية على إسرائيل في مطلع هذا الأسبوع، والتصعيد الجاري من الجانب الإسرائيلي. كل هذه التطورات تثير القلق إزاء عملية استمرار الإمدادات النفطية القادمة من منطقة الشرق الأوسط الغنية بالنفط.
هذا المتغير الجديد في أزمات الشرق الأوسط، يعِد بصدمات نفطية محتملة قد تؤكد المخاوف حيال تأثيرها على التضخم، علمًا بأن تكاليف الطاقة تعد محركًا أساسيًا لارتفاع الأسعار. ويأتي هذا التأثير مع استمرار ارتفاع أسعار النفط التي سجّلت ارتفاعًا ملحوظًا في الأيام الماضية بواقع 4%. ويعكس ارتفاع أسعار النفط المخاطر المحتملة التي قد تعوق إمدادات أو انتقال النفط في المنطقة، حيث تسببت عملية طوفان الأقصى في ارتفاع أسعار النفط مع زيادة التوترات في المنطقة.
(*) توقف إنتاج إسرائيل مؤقتًا: أعلنت إسرائيل بعد تصاعد الاشتباكات، تعليق الإنتاج مؤقتًا من حقل غاز تمار البحري قِبالة ساحلها الجنوبي، وستبحث عن مصادر وقود بديلة لتلبية احتياجاتها.
سيناريوهات مرجحة:
في ضوء التداعيات السابقة، يمكن تحديد سيناريوهين لتحركات أسعار النفط في الأسواق العالمية في ظل الأزمة الراهنة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وذلك على النحو الآتي:
(&) السيناريو الأول: احتمال تزايد أسعار النفط تدريجيًا في الفترة المقبلة، وتتزايد خطورة ذلك مع احتمال طول أمد الصراع المسلح بين الجابين الفلسطيني وجيش الاحتلال الإسرائيلي. فقد قدمت إدارة صندوق النقد الدولي تصورًا لما يمكن أن تجري عليه الأمور في حالة ارتفاع أسعار النفط بمقدار 10%، ففي هذه الحالة سينخفض الناتج العالمي العام المقبل، بواقع 0.15%، وسيرتفع معدل التضخم العالمي بواقع 0.4%.
ويتوقف مدى تأثير الصراع بالنسبة لسوق النفط إلى حد كبير على مجريات الحرب في قطاع غزة خلال الأيام أو الأسابيع أو الأشهر المقبلة. وإذا تصاعد الصراع سيؤثر ذلك على إمدادات النفط في نهاية المطاف، أو يرفع أسعار الخام لفترة طويلة، وقتها سيمنح ذلك مبررًا للحكومة الأمريكية للإفراج عن مزيد من احتياطي البترول الاستراتيجي.
(&) السيناريو الثاني: محدودية على سوق النفط العالمية رغم التداعيات سالفة الذكر، حيث لم تتسبب الاضطرابات التي شهدتها المنطقة مؤخرًا في ارتفاعات مستدامة بأسعار النفط. فلا يوجد حتى تاريخه تهديد مباشر لإمدادات النفط المتدفقة من الشرق الأوسط.
ويؤيد ذلك، تعاملات أسواق النفط في الوقت الحالي، فلم يطرأ تغير كبير على أسعار النفط في التعاملات الآسيوية المبكرة، مع انحسار المخاوف من احتمال انقطاع الإمدادات بسبب التصعيدات الأخيرة على الساحة الفلسطينية الإسرائيلية. فقد ارتفع خام برنت 12 سنتًا إلى 87.77 دولار للبرميل. كما صعد خام غرب تكساس الوسيط الأمريكي ثلاثة سنتات إلى 86 دولارًا للبرميل.
وكان الخامان القياسيان ارتفعا أكثر من 3.50 دولار يوم الاثنين، إذ أثارت الاشتباكات العسكرية مخاوف من أن الصراع قد يمتد إلى ما هو أبعد من قطاع غزة، ولكنهما أغلقا على انخفاض في جلسة الثلاثاء الماضي. وأثارت هذه الأزمة المتفاقمة، صدمة في أسواق الأسهم العالمية على الرغم من أن شركات الطاقة تلقت دعمًا من ارتفاع أسعار النفط التي أدت إلى ارتفاع أرباحها وإيراداتها.
اعتبارات جيوسياسية:
هناك عدة اعتبارات جيوسياسية تؤثر في مستقبل أسواق النفط العالمية وتحكم مسار تحقق السيناريوهات السابقة في ظل التطورات الحالية على الساحة الفلسطينية-الإسرائيلية. فبالإضافة إلى حجم الرد الإسرائيلي الحالي على "عملية طوفان الأقصى"، يمكن تحديد هذه الاعتبارات في ما يلي:
(*) مدى إنفاذ العقوبات الأمريكية على إيران: يسود اعتقاد على نطاق واسع في سوق النفط، بأن الولايات المتحدة غضت الطرف عن إنفاذ بعض العقوبات المفروضة على تدفقات النفط الإيرانية إلى حد ما مؤخرًا، مما سمح للشحنات الإيرانية المهربة بالارتفاع، وهو ما ساهم في استقرار أسعار النفط في السوق بعد الخفض الكبير للإمدادات من السعودية وروسيا وبقية أعضاء تحالف "أوبك +".
ويرى مراقبون أن عواقب أي خطوة أمريكية محتملة إزاء التدخل في الصراع الراهن بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، قد تؤدي إلى قطع تدفق النفط الإيراني ما يعزز الطلب على النفط الروسي، وهي نتيجة لا ترغب فيها واشنطن أو دول مجموعة السبع الأخرى، بينما تحاول عرقلة وصول موسكو إلى عائدات النفط. علاوة على ذلك، فإن أي تحرك لتضييق الخناق على الإمدادات الإيرانية، من شأنه أن يؤدي إلى تشديد سوق النفط، وهو قرار صعب قبل انطلاق الانتخابات الرئاسية الأمريكية العام المقبل.
وتتجلى أهمية هذا الاعتبار كذلك، في أن إيران منتج رئيسي للنفط وداعم رئيسي لحركة (حماس).
(*) أولوية ملف الشرق الأوسط بالنسبة للإدارة الأمريكية: فحتى نهاية الأسبوع الماضي، كانت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تعتمد على بقاء الشرق الأوسط هادئًا نسبيًا، بينما تسعى بهدوء إلى تحقيق أهدافها السياسية الرئيسية، المتمثلة في حل الملف النووي مع إيران، لكن هذه الآمال تبددت مع الاضطرابات التي تشهدها المنطقة حاليًا.
وبعد تجنب التدخل في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الذي يستعصي على الحل خاصة مع التصعيد الأخير المرتبط بطوفان الأقصى، يجد بايدن نفسه الآن مدفوعًا إلى أزمة من المرجح أن تعيد تشكيل سياسته في الشرق الأوسط، وفي تحالف قد لا يشعر فيه بالارتياح مع بنيامين نتنياهو رئيس وزراء الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة.
ويعد الوضع الحالي محفوفًا بالمخاطر من الناحية السياسية بالنسبة لرئيس يسعى لإعادة انتخابه عام 2024، ويمكن أن تترتب عليه آثار كبيرة على أسعار النفط العالمية، حيث يوجه بايدن موارد الولايات المتحدة واهتمامها نحو التحدي الأبرز لسياسته الخارجية؛ وهو حرب روسيا وأوكرانيا.
وفي النهاية، يمكن القول إنه من المبكر التوقع بالتأثير الاقتصادي للتصعيد الخطير الحالي بين فلسطين وإسرائيل، والتي من الممكن أن تؤثر على اقتصاد المنطقة بالكامل بل والعالم بأسره. ويبدو أن التأثير الأكبر يتمثل في زيادة أسعار البترول في الأسواق العالمية؛ فأسعار النفط ارتفعت خلال الأيام الماضية بنحو 4%، وهي أوضاع عادةً ما تظهر في ظروف عدم الاستقرار الجيوسياسية. فعلى الرغم من أن فلسطين، وإسرائيل ليستا منتجتين للنفط، لكن منطقة الشرق الأوسط تمثل ما يقرب من ثلث الإنتاج العالمي.
ويتوقف تأثير أزمة الصراع بين إسرائيل وفلسطين في الوقت الراهن، على حجم الأزمة؛ وإنْ كانت ستطول أم لا، ومن ثَمَّ ينعكس الأمر على الاقتصاد العالمي. فقد صعدت أسعار النفط مع تفجر هذا الصراع بعد شهور من الانخفاض، فبينما يتوقع صندوق النقد الدولي أن يسجل نمو الاقتصاد العالمي 3%، فإن صدمة جديدة قادمة قد تؤثر على النمو حال استمرار ذلك الصراع.
ومن الجدير بالذكر هنا أن صندوق النقد الدولي، قد ثبّت - في تقرير آفاق الاقتصاد - توقعاته لنمو الاقتصاد العالمي لعام 2023 عند 3%، بينما خفض توقعات عام 2024 بواقع 0.1 نقطة مئوية إلى 2.9%، وهو تباطؤ ملحوظ مقابل نمو بلغ 3.5% في 2022. وخفض صندوق النقد الدولي توقعاته لنمو اقتصادات الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بمقدار 0.5% إلى 2%، مقارنة مع التقديرات السابقة الصادرة في يوليو الماضي، فقد جاءت هذه التقديرات المنخفضة بناء على التصعيد الحالي في قطاع غزة.
فالصراع الفلسطيني الإسرائيلي الحالي، قد يؤدي إلى آثار سلبية غير متوقعة لا يمكن التنبؤ بها على الاقتصاد العالمي الذي يشهد بالفعل تباطؤًا مستمرًا. وتتزايد خطورة هذا الصراع مع استمرار حالة عدم اليقين الاقتصادي، التي قد تؤدي إلى تأخير عملية صنع القرار، وتزيد من المخاطر الاقتصادية.