على ضوء التزامات دولية عدة، وتعزيز الشراكات والتعاون الاقتصادي الثنائي، أجرى ولي العهد رئيس الوزراء السعودي الأمير محمد بن سلمان، جولة آسيوية مهمة شملت إندونيسيا وكوريا الجنوبية وتايلاند، فيما لم يكمل جولته بزيارة كانت مقررة لليابان، في مؤشر على توجه المملكة نحو الشرق. ورغم اعتذار ولي العهد عن حضور القمة العربية في الجزائر لدواعٍ صحية، إلا أنه حرص على تمثيل بلاده في 2 من أهم القمم العالمية وتعزيز دورها في مجموعة العشرين، كما حضر قمة منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ "أبيك" بدعوة من مملكة تايلند المضيفة.
وتشير الجولة إلى دوافع ومحركات التوجه السعودي لتعزيز الحضور في آسيا خلال مرحلة حيوية للمملكة واقتصادها الوطني في ظل فتور نسبي واضح مع الحليف الأمريكي ظهرت آثاره خلال أزمة قرار أوبك بلس في أكتوبر الماضي بتخفيض إنتاج النفط 2 مليون برميل يوميًا، بالتوازي مع عدم لقاء الرئيس الأمريكي وولي العهد السعودي خلال أعمال قمة العشرين.
مصالح جوهرية:
تضمن نشاط ولي العهد السعودي، لقاء عدد من قادة الدول والحكومات، حيث تناولت الجولة مباحثات موسعة مع الرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو، والرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول، ورئيس الوزراء ووزير الدفاع التايلاندي برايوت تشان أوتشا، وأسفرت عن توقيع اتفاقات ومذكرات تفاهم، كما ألقى الأمير محمد بن سلمان بقادة فرنسا والفلبين وبروناي ورئيس وزراء سنغافورة على هامش قمتي العشرين وأبيك، ومن خلال اللقاءات الثنائية حرصت الرياض على الملفات التالية:
(*) أمن الطاقة: يأتي ملف الطاقة على رأس الأولويات السعودية في علاقاتها الآسيوية، التي باتت الوجهة الرئيسية لصادرات المملكة النفطية ومنتجاتها البتروكيماوية، وتمثل زيارة ولي العهد رسالة طمأنة إضافية للأسواق الآسيوية بعدم تأثر الإمدادات السعودية بخفض إنتاج أوبك بلس، خاصة وأن شركة أرامكو النفطية السعودية خفضت أسعار الخام لتلك الأسواق في 4 نوفمبر 2022، وجددت التزامها بالحصص المتعاقد عليها في ديسمبر المقبل. ووقعت المملكة اتفاقات ومذكرات تفاهم مع كوريا الجنوبية وتايلاند وإندونيسيا في مجالات الطاقة المتعددة تتضمن تعزيز إمدادات النفط وإنتاج البتروكيماويات، وتعزيز التحول للطاقة النظيفة والمستدامة، عبر اعتماد تقنيات إزالة الكربون وتدشين مشروعات الهيدروجين الأخضر والأمونيا الخضراء. ومن بين تلك الاتفاقات، تدشين مشروع شاهين في كوريا الجنوبية، الأول من نوعه لتحويل النفط الخام إلى مواد بتروكيماوية أولية، عبر تقنية التكسير الحراري بإجمالي استثمارات تصل إلى 7 مليارات دولار، حسبما ذكرت شركة أرامكو السعودية.
(*) جذب الاستثمارات الحيوية: في ضوء مساعي تنويع الاقتصاد الوطني تسعى المملكة لاستقطاب استثمارات مهمة من حلفائها الموثوقين في آسيا في مجالات الطاقة النووية والصناعات الدفاعية والبنية التحتية التكنولوجية خاصة في مدينة نيوم، التي أبدى الرئيس الكوري الجنوبي اهتمامًا خاصًا بتعزيز استثمارات الشركات الكورية بها. ويتمثل ذلك التوجه في توثيق العلاقات على كافة المستويات وبناء علاقات شراكة بين شركات القطاع الخاص الرائدة في مجالات التكنولوجيا والطاقة، حيث تمخضت عن زيارة ولي العهد إلى بانكوك عن تأسيس مجلس التنسيق السعودي التايلاندي، وهو توجه جديد نسبيًا للمملكة يُعنى بتطوير العلاقات الثنائية على كافة الأصعدة وهو ما لجأت إليه المملكة مع عدة دول أبرزها دول مجلس التعاون والخليجي ومصر.
الاتجاه شرقًا:
تأتي جولة ولي العهد جزءًا من توجه بعيد المدى اتخذته المملكة العربية السعودية باتجاه آسيا، حيث تتركز مصالحها الاقتصادية الرئيسية وتحظى سياسات دولها بدرجة من الاستقرار، ليس فقط لدى صناع القرار وإنما في أوساط وسائل الإعلام والصحف السعودية، بالتوازي مع العلاقات مع الولايات المتحدة والتي بالرغم من رسوخها وأولوياتها في الملف الأمني الإقليمي إلا أن ديناميات تلك العلاقات لم تعد على صورتها المعتادة، في ضوء تباين المواقف في ملفات الطاقة والأمن الإقليمي والقيم. وتأتي سياسة التوجه شرقًا وتعزيز الشراكة مع آسيا لتدلل على دوافع ومحفزات لتنويع الشراكات الدولية وهي كالتالي:
(&) تعزيز المكانة الاقتصادية للمملكة: تستند المملكة العربية السعودية تقليديًا على فضائها العربي والإسلامي، إلا أنها في ظل القيادة السياسية الحالية باتت أكثر اهتمامًا بتعزيز مكانتها على الصعيد الدولي وتوثيق جسور التعاون مع حلفائها خلف تلك الخطوط التقليدية، مستندة في ذلك إلى الملف الاقتصادي، في ظل مساعي المملكة لاحتلال المرتبة الخامسة عشر في قائمة أكبر اقتصادات العالم بحلول 2030، عبر دعم مشروعات التنويع الاقتصادي وتعزيز قطاعات التصنيع والتكنولوجيا، وتحويل المملكة إلى مركز رئيسي في سلاسل الإمداد العالمية. وتعد القوى الآسيوية الصاعدة أبرز شركاء المملكة اقتصاديًا وتجاريًا، فعلى الصعيد التجاري استحوذت الصين والهند واليابان على 36,4 % من إجمالي صادرات المملكة للعالم، كما استحوذت الصين وحدها على 21,4 % من إجمالي الواردات، وفقًا لبيانات هيئة الإحصاء السعودية عن شهر أغسطس 2022.
(&) دعم الاستقلال الاستراتيجي: ترتكز السياسة الخارجية السعودية على عدة أبعاد تستهدف تحقيق استقلالية القرار الاستراتيجي للمملكة على الصعيد الدولي، أولها تعزيز روابطها الدولية بما يتجاوز الأطر التقليدية، كما تهدف إلى استمرار تطوير جيشها ودعم صناعاتها الدفاعية الوطنية. وتتوازى تلك التحركات مع زيارة مرتقبة للرئيس الصيني إلى المملكة والحديث عن طلب سعودي للانضمام إلى تجمع البريكس الاقتصادي -الذي يضم الصين والهند وجنوب أفريقيا والبرازيل وروسيا- وينبع هذا التوجه من رؤية سعودية لنظام عالمي قيد التشكيل تحظى فيه القوى الآسيوية على اختلافها بثقل كبير في التوازنات الدولية.
(&) المشاركة الدولية الفعالة: حرصت المملكة على تأكيد دورها كأحد أكبر اقتصادات العالم وأحد أسرعها نموًا من خلال إعلانها تقديم 50 مليون دولار لصندوق الوساطة المالية للأمن الصحي أو ما يُعرف بصندوق الجائحة، وكان الصندوق أحد مقترحات قمة المجموعة في 2020 والتي انعقدت افتراضيًا برئاسة المملكة لدعم الاقتصادات الضعيفة في مواجهة جائحة كوفيد-19. وفي دلالة على مكانة المملكة، أسست رابطة العالم الإسلامي السعودية وهيئة نهضة العلماء الإندونيسية، منصة تواصل الأديان لمجموعة العشرين "R 20"، والتي عقدت القمة الأولى لقادة الأديان الأكثر تأثيرًا حول العالم قبيل قمة قادة دول المجموعة في نوفمبر الجاري، وتهدف لمساهمة الزعماء الروحيين في حل الأزمات العالمية وتنحية أطروحات الصراع والصدام الحضاري، ومن ثم تعزيز السلام العالمي.
وإجمالًا، تمثل جولة ولي العهد السعودي إحدى حلقات توجه السعودية نحو الشرق، في خضم سياسة جديدة تضع تحول الاقتصاد الوطني نحو الاستدامة على رأس الأهداف العاجلة لتأكيد مكانة المملكة على المسرح الدولي في مرحلة ما بعد النفط عبر ذراع اقتصادي ممثل في قوتها الاستثمارية، انطلاقًا من مبدأ تعزيز المنافع المتبادلة وتنويع الشراكات الدولية، التي تدعم بالنهاية استقلالية القرار الخارجي السعودي وتحييد الضغوط على المملكة أو استهداف مواردها.