تستضيف العاصمة المصرية، القاهرة، محادثات اللجنة الاستشارية الثنائية بين الجانبين الأمريكي والروسي حول معاهدة خفض الأسلحة الهجومية الاستراتيجية والحد منها "نيو ستارت"، في الفترة من 29 نوفمبر الجاري وحتى 6 ديسمبر المقبل، ضمن جهود منع الانزلاق لمواجهة نووية على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية. وتعد معاهدة "نيو ستارت"، الركن الأساسي المتبقي من حزمة اتفاقات ضبط التسلح النووي وخفضه بين الولايات المتحدة وروسيا (الاتحاد السوفييتي السابق)، والتي دخلت حيز التنفيذ في عام 2011، وتتضمن خفض أعداد الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، والقادرة على حمل رؤوس نووية، والصواريخ الباليستية العاملة على الغواصات، وإجراء عمليات التفتيش الدوري المتبادل بين البلدين بنحو 18 زيارة سنويًا.
ورغم تمديد المعاهدة في فبراير 2021 لمدة 5 سنوات، إلا أن تشديد العقوبات على روسيا منذ اندلاع الأزمة مع أوكرانيا، دفع موسكو لإعلان تعليق عمليات التفتيش في أغسطس الماضي، نتيجة عرقلة وصول مفتشيها وطائراتها إلى الأراضي الأمريكية. وفي ظل مخاطر التهديد باستخدام السلاح النووي، وتداعياته المحتملة في حالة ارتفاع معدل التصعيد بين الأطراف الدولية المتشابكة في الحرب الروسية الأوكرانية، يبقى السؤال: ما دلالات انعقاد المحادثات في القاهرة، وحدود انعكاساتها الإقليمية والدولية؟
دلالات التوقيت:
يشير توقيت انعقاد المحادثات بنهاية الشهر الجاري إلى عدة عوامل دافعة، تتمثل في التالي:
(*) الخطر النووي: تزايدت التحذيرات الغربية في الفترة الأخيرة من استخدام روسيا لأسلحة نووية تكتيكية، بالتوازي مع تحذير موسكو من إنتاج كييف قنبلة قذرة بمساعدة دول غربية، فيما تصاعدت المواجهات في محيط محطة زابوريجيا النووية، وهو ما دفع الولايات المتحدة لفتح قنوات تواصل مع الاتحاد الروسي لتحذيره من عواقب تلك الخطوة. ويتوازى مع الحرب، تزايد إطلاق الصواريخ الباليستية الكورية الشمالية التي تهدد، ليس فقط كوريا الجنوبية واليابان، وإنما البر الأمريكي أيضًا.
(*) الضغوط الدولية: تلقت الأطراف المشاركة في الأزمة الروسية الأوكرانية، ردود فعل منددة وأخرى داعية لإنهائها، وفي مقدمتها ما قاله ناريندرا مودي رئيس وزراء الهند، لفلاديمير بوتين الرئيس الروسي على هامش قمة شنغهاي للتعاون منتصف سبتمبر 2022، إن الوقت الحالي ليس وقت الحرب، كما كشف لقاء بوتين مع الرئيس الصيني شي جين بينج على هامش القمة عن "مخاوف" لدى بكين حول الوضع في أوكرانيا. وازداد زخم دعوات إنهاء الأزمة وإبعاد شبح توسيع رقعة الحرب خلال القمم العالمية "cop27" ومجموعة العشرين ومنتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ "أبيك"، والتي وضعت الأطراف الكبرى أمام مسئوليتها والاستجابة لنداءات خفض التصعيد.
(*) مسارات متعددة: بعد انضمام النمسا إلى العقوبات الغربية المفروضة على روسيا جراء الأزمة، لم تعد مكانًا محايدًا للتفاوض بين موسكو وواشنطن على المستوى الثنائي، أو في قضايا الاستقرار الاستراتيجي، ما دفع البلدين للتعاون مع الدول المُيسرة لأجواء تلك المفاوضات، على غرار لقاء مدير المخابرات المركزية الأمريكية وليام بيرنز ونظيره الروسي سيرجي ناريشكين في تركيا قبل أسبوع.
(*) تحولات الداخل: على الرغم من توافق الحزبين الجمهوري والديمقراطي على دعم أوكرانيا، من المحتمل أن تؤثر سيطرة الجمهوريين على مجلس النواب الأمريكي في سياسة إدارة بايدن تجاه الأزمة الروسية الأوكرانية، والدفع باتجاه تضييق الفجوات بين الولايات المتحدة وروسيا، وإبقاء قنوات اتصال مفتوحة وفعالة مع موسكو في الشؤون الأمنية والاستراتيجية.
القاهرة.. التناسب بين المسؤولية والدوّر:
لا يمكن الفصل بين انعقاد تلك المحادثات في القاهرة، ونداء الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بوقف الحرب في نهاية كلمته الافتتاحية أمام قادة العالم في مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ في مدينة شرم الشيخ "Cop27"، وهو ما يمكن رؤيته في المؤشرات الحالية:
(*) الدبلوماسية الرئاسية: اتسمت السياسة الخارجية المصرية منذ يونيو 2014 بالحيوية والإدراك لوقائع التغير في البيئة الدولية، والحاجة لتطوير آليات تدعم تنفيذ أهداف الدولة المصرية في ترسيخ الأمن والاستقرار على المستويين الإقليمي والدولي وتحييد التهديدات والمخاطر الناشئة من الخارج، عبر تعظيم دور الرئيس ليس فقط في صنع السياسة الخارجية، وإنما عبر السعي الحثيث في تنفيذها. الرئيس المصري أكد في هذا الصدد التزامه ببذل كل الجهود الرامية لإنهاء الحرب ونزع فتيل الأزمة ومنع تفاقمها، ولعل إشادة الرئيس الأمريكي جو بايدن بموقف نظيره المصري من الحرب شكلت أرضية مشتركة من التفاهم بينهما، بالتوازي مع العلاقات الجيدة بين السيسي ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، خاصة في قضية جوهرية لا يمكن أن ينقسم العالم حولها مثل الأمن النووي وتعزيز "الاستقرار الاستراتيجي"، والتي تشير إلى استمرار التواصل بين القوى الكبرى لمنع الانزلاق إلى مواجهة نووية.
(*) ترسيخ القيم: اعتمدت مصر سياسة خارجية متوازنة وخاصة في مواجهة الأزمات الدولية، وتتمثل في التمسك بالنظام الدولي متعدد الأطراف، والالتزام بميثاق الأمم المتحدة وقواعد القانون والعُرف الدوليين، خاصة في حل الأزمات بالحوار والوسائل السلمية ونبذ اللجوء للقوة. وفي ذات السياق، لعبت مصر دورًا تأسيسيًا في بناء تحرك جماعي عربي للوساطة من خلال "مجموعة الاتصال العربية" بشأن الأزمة الروسية الأوكرانية. وظهر ذلك التوجه في مفردات الخطاب الرئاسي الذي ترك الباب مفتوحًا أمام الدور المصري المنتظر بين الوساطة أو تقريب وجهات النظر أو تبادل الرسائل أو استقبال وفود التفاوض على الأراضي المصرية.
(*) المسئولية الدولية: وتعكس الاستضافة كذلك، مصداقية القاهرة كقوة رشيدة وحجر زاوية الاستقرار إقليميًا وعالميًا، فضلًا عن كونها فاعل دولي منشغل بتخفيف التوترات الجيوسياسية الدولية التي تهدد الاقتصاد العالمي من ناحية، وتعرقل الأجندة الدولية المتخمة بالقضايا والملفات العاجلة، وعلى رأسها مواجهة تغير المناخ، من ناحية أخرى. وكانت مصر من أوائل الدول الداعية لتحييد خطر التسلح النووي والمساهمة الفعالة في منع الانتشار على المستويين الإقليمي والدولي، من خلال الدعوة لإنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط والتي تنبتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 1974، وهو ما يمثل خطوة على طريق منع الانتشار على المستوى الدولي عبر جهود متواصلة من الخارجية المصرية لدفع القوى الكبرى للالتزام بمعايير الحد من الانتشار النووي.
وختامًا؛ تبدو رسائل انعقاد المحادثات الروسية الأمريكية بتوقيتها ومكانها في القاهرة دلالة على أهمية الدوّر المصري على الصعيدين الإقليمي والدولي، ويعكس الثقل المتزايد لمصر كركيزة أساسية للأمن والاستقرار الدوليين، ويمهد لتحركات أوسع على صعيد الوساطة لحلحلة الأزمات الدولية، بناءً على رصيد الثقة المتراكم من اختبارات الوساطة المصرية في منطقة الشرق الأوسط، وعلى رأسها رعاية التهدئة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية.