الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

إلى أين ينتهي صراع الميليشيات داخل ليبيا؟

  • مشاركة :
post-title
صراع الميليشيَّات داخل ليبيا

القاهرة الإخبارية - محمود جمال

تدخل الأزمة الليبية عامها الثاني عشر دون أن تُفضي أحداثها إلى نتائج دستورية تؤذن لها بتجاوز حقبة الثورة والعنف، وبدء مرحلة الدولة واستعادة المؤسسات لأدوارها المسلوبة. وتعزو عدد من التحليلات والرؤى ذلك الأمر إلى ضعف البنية الأساسية اللازمة لبناء الدول خلال حقبة الزعيم الليبي الراحل "معمر القذافي".

سمح ذلك بنمو الميليشيات التي لطالما وقفت عائقًا أمام عودة حالة الاستقرار منذ عام 2011 لتحقيق مصالحها الضيقة بعيدًا عن مصالح الدولة العليا. 

ونتناول في هذا التقرير العوامل التي ساعدت في نمو نشاط الميليشيات بليبيا، وخرائطها، ومستقبل الصراع بينها.

عوامل النشأة والاستمرار:

أدَّت مجموعة من العوامل إلى ظهور الميليشيَّات ونموها في الحالة الليبية، ولعلَّ أبرزها الغياب المؤسسي، وفقد الثقة بين الأطراف، ونمو سياسة الارتزاق، وهيمنة المناطقية على الصراع، وسنوضح هذه العوامل فيما يلي:

(*) تراجع المؤسسية: أسهم ترسيخ غياب المؤسسية بعهد القذافي، في تفاقم الأوضاع وخروجها عن السيطرة بعد 2011. واعتبرت الأمم المتحدة، في أحد تقاريرها المنشورة عام 2021، أن حالة الإخفاق المؤسسي كانت أهم الأسباب التي رسخت لغياب فكرة الدولة في ليبيا، ما أدى بالتبعية إلى تسرب السلاح وإضعاف النسيج الاجتماعي وظهور النزاعات المسلحة.

(*) غياب الثقة: يُمكن أن نعدّ مسألة فقدان الثقة واحدة من أبرز محفزات نمو نمط التسليح لدى الميليشيات؛ إذ تعد كل ميليشيا أن السلاح هو الضامن الرئيسي لوجودها.

(*) نمو سياسة الارتزاق: أدخلت أنقرة، الدولةَ الليبية في نفق أكثر ظلمة من انتشار الميليشيَّات بعد شحنها آلاف المرتزقة من بؤر الصراع في سوريا عام 2019؛ إذ بات هؤلاء المرتزقة مصدر تهديد للعملية السياسية في ليبيا، لا سيما أن استمرار الصراع يُمثل أساس عدم انقطاع رواتبهم.

جدير بالذكر أن الأطراف الليبية والمجتمع الدولي اتفقا على ضرورة إخراج المرتزقة من ليبيا كبداية للحل السياسي، وإجراء الانتخابات، ولكن لا زال ذلك مجرد دعوات لم تلقَ تنفيذًا على الأرض لأيٍ من الأطراف.

(*) هيمنة الجهوية والمحلية: تُمثل الجهوية والمطالبات الانفصالية مصدر تهديد للوحدة الليبية، وعاملًا مهمًا في استمرار الصراع وتغذيته، خاصة أن كل جهة ومنطقة في ليبيا لها ميليشيَّاتها الخاصة، وكل ميليشيا لها تفضيلاتها السياسية المختلفة.

جدير بالذكر أنه بمجرد سقوط النظام في ليبيا، اختفت الشعارات الجامعة كالثورة وطغت الثنائيات المناطقية مثل الشرق/الغرب، طرابلس/بنغازي، فزان، وبرقة. وكان ذلك كله مصدر شرعية لاستمرار الميليشيَّات وتوسع أنشطتها وتمددها.

خريطة الميليشيَّات في ليبيا:

تُصنف الميليشيَّات الليبية إلى صنوفٍ مختلفة، وفق عدد من المؤشرات، فمنها ما هو أيديولوجي، ومنها ما هو عرقي ومناطقي، ومنها ما هو إجرامي يتبنى الجريمة المنظمة كوسيلة للكسب. وتمتد مصالحه الاقتصادية المادية من غياب الاستقرار مثل جماعات الاتجار بالبشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، والسلاح والمخدرات عبر البحر. وتغيَّرت موازين القوى داخل خريطة الميليشيَّات أكثر من مرة منذ بدء الأحداث في 2011، ولكن يُمكن ملاحظة تشكلاتها بصورة جليَّة منذ بدء عملية "فجر ليبيا". ونُبرز فيما يلي أبرز ملامح وتشكيلات هذه الخريطة:

انتشار الميليشيَّات في ليبيا

(&) ميليشيَّات مناطقية: سيطرت المناطقية والاتجاهات المحلية على عدد من الميليشيَّات في ليبيا، رغم اختلاف توجهاتها السياسية. واجتمعت الميليشيَّات الليبية على إعلاء مبدأ المناطقية فوق ما هو وطني. وترى التحليلات أن هذا التوجه جاء مقصودًا كتمهيد للوصول إلى حالة الفيدرالية أو حتى الانفصال كما يرى المتشائمون. وتُعد تسميات هذه الميليشيَّات ونسبها لمناطقها مؤشرًا على ذلك؛ فمثلًا نرى ميليشيا مصراتة، وبنغازي، والزنتان وغيرهم. وتُعد ميليشيَّات الأمازيغ في مناطق الغرب الليبي، التي تُطلق على نفسها القوة الوطنية المتحركة نموذجًا للتشكيل العرقي المناطقي.

(&) ميليشيَّات أيديولوجية: تُمثل أغلب هذه الميليشيَّات أذرعًا عسكرية وشبه عسكرية لتنظيم الإخوان الإرهابي في ليبيا، ومن أبرز هذه الميليشيَّات جماعة أنصار الشريعة التي تُصنفها واشنطن تنظيمًا إرهابيًا. وشاركت هذه الجماعة في الهجوم على القنصلية الأمريكية في بنغازي، الذي أسفر عن مقتل السفير الأمريكي هناك عام 2012. يُضاف إلى هذه الجماعات، ميليشيا الجماعة الإسلامية المقاتلة في طرابلس، وميليشيا "درع ليبيا" التي تتبعها "غرفة عمليّات ثوار ليبيا" التي تنتشر في مناطق الغرب الليبي، وميليشيا الزنتان والسلفية الجهادية المتحالفة مع تنظيم الإخوان والداعية لإنشاء تحالف فيدرالي في ليبيا.

(&) ميليشيَّات الجريمة المنظمة: تستغل جماعات الجريمة المنظمة حالة عدم الاستقرار في ليبيا، إذ تتخذ هذه الجماعات من السواحل الليبية الممتدة مقرًا لأنشطتها غير القانونية، مثل الاتجار في البشر سواءً عن طريق تسيير رحلات الهجرة غير الشرعية تجاه الضفة الشمالية من المتوسط أو التجارة في الأعضاء البشرية. يُضاف إلى هذه الأنشطة مسألة التجارة في السلاح لا سيما أن البيئة الليبية خصبة ومحفزة لنمو هذه الأنشطة بسبب انتشار الميليشيَّات العسكرية وشبه العسكرية واستمرار حالة الصراع منذ 2011. وتُظهر بعض التحليلات أن ثمّة علاقة بين نمو هذه المجموعات والصراع السياسي القائم هناك.

سيناريوهات مستقبلية:

تُخيم حالة تشاؤمية على المشهد السياسي الليبي لا سيما بعد تعثر المشهد الانتخابي والدستوري في ليبيا منذ عام 2014، وفشل عدد من مسارات الحل بل تحولها فيما بعد لعُقد جديدة في المسرح السياسي المتأزم بطبيعته. في ضوء ذلك يُمكن أن يستمر صراع الميليشيات مستقبلًا، ويُتوقع أن يؤدي إلى:

(*) استمرار حالة عدم الاستقرار في ضوء اختلاف الأجندات السياسية، فمع ولوج كل حكومة ليبية كمسار للحل، تتبدل خريطة الميليشيَّات لا سيما أن الحكومة لا تحل نفسها بعد فشل التوافق وإجراء الانتخابات في المدة المحددة، بل تتحول إلى عقدة جديدة في المشهد السياسي مثل ما حدث مع حكومتي "فايز السراج"، و"عبدالحميد الدبيبة" ومؤخرًا رئيس الحكومة المكلف "فتحي باشاغا".

وتتنافس بعض الحكومات الليبية على دعم الميليشيَّات عبر شراء الولاءات، ما يؤيد استمرارها وتمددها في ضوء غياب فرص الحل السياسي، ومن هذه الميليشيَّات "قوة الردع" التي تتخذ من قاعدة معيتيقة الجوية في طرابلس مقرًا لها.

وتمتلك قوة ردع ليبيا مخازن كبيرة من الأسلحة والعربات المصفحة والدبابات والطائرات العسكرية، وتضم ما يفوق عن 55 ألف مقاتل، ويشوب موقفها الغموض من دعم حكومتي الدبيبة، وفتحي باشاغا، ولكن هذا لا ينفي أنها داعمة بشكلٍ عام لحالة عدم الاستقرار باعتبارها من أكبر المستفيدين منها.

وتُعد ميليشيّات "جهاز دعم الاستقرار"، والكتيبة 301 مشاة، واللواء 53 مشاة المتمركزة في طرابلس، وقوة "دعم الدستور والانتخابات" من الداعمين لحكومة الدبيبة، فيما تساند ميليشيَّات اللواء 777، ومصراتة، واللواء أسامة الجويلي، وكتيبة 55، حكومة باشاغا.

(*) تآكل الدولة لصالح المرتزقة: من المتوقع أن تؤدي الحالة السياسية التي تسود المشهد الليبي إلى مزيد من التشرذم وتراجع دور الدولة، خاصة مع فشل الأطراف المتصارعة في حسم النزاع لصالحها عسكريًا، ما سيؤثر في استمرار الوضع على حاله بل تأزمه مستقبلًا. وتُمثل تجربة الجيش الوطني في شرق ليبيا بقيادة "خليفة حفتر"، رغم نجاحها في تحقيق الاستقرار، مصدر تخوف لهذه الميليشيات باعتبار أن التنظيمات الميليشاوية لا يُمكن أن تمارس أنشطتها غير القانونية في ظل وجود قوات مسلحة قوية ومحل إجماع عام، وهو الأمر الذي تدفع التنظيمات العسكرية والجهادية إلى رفضه، ونجح استثمار أنقرة في هذه الميليشيَّات طوال الأعوام الماضية في دعم هذا التوجه.

مجلس الأمن يصوِّت على تمديد البعثة الأممية في ليبيا

(*) صراع محتمل بين الميليشيَّات: تُنذر أحداث العنف التي جرت في طرابلس سبتمبر 2022 بالأسلحة الثقيلة بين الميليشيَّات المختلفة بتطور غير محمود، لا سيما أن هذه الميليشيَّات لا تتحلى بالمهنيّة مثل الجيوش الوطنية، وهو الأمر الذي يُهدد بتطور الصراع إلى حرب أهليّة شاملة في ضوء تغذية روح المظلوميّة والانقسام بين المناطق سواءً على أساسِ جهوي أو ديني أو أيديولوجي. وفي هذا السياق، حذَّر مجلس الأمن الدولي من الاشتباكات الدموية التي شهدتها مدينة طرابلس، ودعا إلى الامتناع عن العنف، وتصعيد التوتر.

في النهاية، كانت نشأة الميليشيَّات في ليبيا حلًا مؤقتًا لحفظ الأمن إثر الفوضى الأمنية التي عمَّت أنحاء ليبيا عام 2011، إلا أن هذه الجماعات لم تحل نفسها بعد إسقاط "القذافي"، بل تمددت أنشطتها وارتفعت معدلات تسليحها، وباتت مُعرقِلةً لأي محاولة استقرار سياسي، بل وصلت إلى حد الهيمنة على المؤسسات الخاصة بالدولة والتحالف مع دولٍ أجنبية مثل تركيا التي ساعدت في استقدام مزيد من المرتزقة والعناصر المسلحة لتقوية هذه الميليشيَّات.