لا زالت ظاهرة الهجرة غير الشرعية محل جدل بين تونس وعدد من دول الاتحاد الأوروبي، التي تتخوف بشدة من تفاقم هذه الظاهرة، بشكل ينعكس سلبًا على أوضاعها خاصة الاقتصادية والأمنية، ولذلك تصاعدت دعوات وزيارات بعض المسؤولين الأوروبيين إلى تونس خلال يونيو الجاري، لحثّ الرئيس التونسي قيس سعيد وحكومته على الحد من ظاهرة الهجرة غير النظامية، في مقابل دعمه سياسيًا واقتصاديًا، ومساندة الجهود التي يبذلها لتنمية البلاد، وقد أفاد بعض الناشطين والخبراء السياسيين في تونس، بأن هذه التحركات الأوروبية، الهدف منها أن تكون الدولة الواقعة شمال إفريقيا، هي "الحارس للحدود الأوروبية الجنوبية".
تجدر الإشارة إلى أن تونس لطالما أعلنت معاناتها من تفاقم الموجات المتلاحقة للمهاجرين غير الشرعيين القادمين من دول إفريقيا جنوب الصحراء، الذين يستغلونها كبوابة عبور رئيسية لهم، إذ يتوجهون من خلال البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا، وهو ما يتسبب في أوضاع غير آمنة وأزمات اقتصادية، فضلًا عن انتشار للجماعات المتطرفة سواء بالدولة الواقعة شمال إفريقيا أو بالدول الأوروبية التي يتوجه إليها المهاجرون غير الشرعيين.
تحركات أوروبية ورؤية تونسية:
في ضوء ما تقدم، يمكن التطرق إلى أبرز التحركات الأوروبية الأخيرة نحو تونس، وردّ فعل السلطات والأحزاب التونسية على هذه التحركات، وذلك على النحو التالي:
(*) تحذير تونسي من التعامل مع قضية المهاجرين: في 10 يونيو الجاري، أجرى الرئيس التونسي قيس سعيد زيارة إلى صفاقس الساحلية، وهي المدينة المعروفة بكونها الواجهة الرئيسية للمهاجرين غير النظاميين، خاصة القادمين من دول إفريقيا جنوب الصحراء، وكشف الرئيس التونسي خلال كلمته، في فيديو بثته وسائل الإعلام التونسية، أن الهدف من الزيارة هو الاطلاع على الأوضاع المتعلقة بالهجرة والمهاجرين، مطالبًا بالتعامل بشكل إنساني مع أي مهاجر جاء إلى الأراضي التونسية بشكل قانوني، ولكنه في الوقت ذاته وجه تحذيرًا شديد اللهجة إلى الدول الساعية لتحمل تونس وحدها أزمة المهاجرين، قائلًا: "الحل لن يكون على حساب تونس، لا يمكن أن نقوم بالدور الذي يفصح عنه بعضهم ويخفيه البعض الآخر، لا يمكن أن نكون حرس حدود لدولهم"، وكرر "سعيد" هذا التحذير خلال مباحثات هاتفية مع رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال، في 14 يونيو الجاري، قال فيها: "تونس لا يمكن أن تكون حارسة إلا لحدودها، وترفض أن تكون ممرًا للعبور أو مكانًا للتوطين".
(*) قادة أوروبيون في تونس لبحث أزمة الهجرة غير الشرعية: بعد مرور يوم واحد فقط على التحذير الذي أطلقه الرئيس التونسي خلال زيارته لمدينة صفاقس، استقبلت الدولة الإفريقية صباح 12 يونيو الجاري، كلًا من رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، ورئيسي وزراء هولندا مارك روته وإيطاليا جورجا ميلوني، وأجرى القادة الأوروبيون مباحثات مع الرئيس قيس سعيد، ركزت بشكل خاص على بحث احتواء أزمة المهاجرين غير النظاميين، التي تمثل هاجسًا لدول الاتحاد الأوروبي، وخلال هذه المباحثات، طرحت رئيسة المفوضية الأوروبية، برنامجًا من خمس نقاط على الرئيس "سعيد" لمكافحة الهجرة، وينص هذا البرنامج على تعهد الاتحاد الأوروبي بتقديم مساعدة مالية للاقتصاد التونسي تصل إلى 900 مليون يورو، بجانب مساعدات إضافية بقيمة 150 مليون يورو يمكن ضخها في الميزانية التونسية فور إبرام الاتفاقات اللازمة، منها 100 مليون لإدارة الحدود، وتأمل الدول الأوروبية في موافقة تونس على هذا العرض والتوقيع على اتفاق خلال القمة الأوروبية المبرم انعقادها نهاية يونيو الجاري، وفي 20 يونيو الجاري، جددت رئيسة وزراء إيطاليا خلال لقائها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، تأكيدها على حرص الاتحاد الأوروبي على تقديم مساعدة اقتصادية لتونس لمواجهة مشكلات الديون التي تواجهها.
(*) مباحثات ألمانية وفرنسية في تونس: بعد أسبوع على زيارة الوفد الأوروبي إلى تونس، توجه وزيرا داخلية ألمانيا نانسي فيزر وفرنسا "جيرالد دارمانين، في 19 يونيو الجاري، إلى الأراضي التونسية لإجراء مباحثات مع الرئيس "سعيد" ووزير الداخلية كمال الفقي لبحث القضية ذاتها، وخلال الزيارة أعلن الوزير الفرنسي تقديم مساعدة بقيمة 25.8 مليون يورو لدعم تونس في كبح الهجرة غير النظامية ووقف قوارب المهاجرين عبر البحر المتوسط، وقال "دارمانين": "هذه المساعدات ستمكن تونس من الحصول على معدات ضرورية وتنظيم تدريبات للشرطة وحرس الحدود لاحتواء التدفق غير النظامي للمهاجرين وتشجيع عودتهم في ظروف مناسبة"، وفي الوقت ذاته، ردّ الوزير الفرنسي على تصريح سابق للرئيس التونسي بأن بلاده لن تكون حرس حدود، قائلًا: "دور تونس ليس أن تكون خفر سواحل، لكننا نعمل على تقليص عدد المغادرين".
دوافع أوروبية:
في ظل التطورات سالفة الذكر، يمكن القول إن هناك دافعين رئيسيين وراء التحرك المتصاعد لدول الاتحاد الأوروبي نحو تونس وعرض كل هذه المساعدات، يمكن إبرازهما على النحو التالي:
(&) الدافع الأول: تزايد التحركات الأوروبية نحو تونس لحل أزمة المهاجرين غير النظامين هذه الأيام، يأتي في إطار استعداد البرلمان الأوروبي خلال الفترة المقبلة، لمناقشة تعديل على نظام الهجرة واللجوء، وخاصة "قانون دبلن" الذي ينص على حرص دول الاتحاد الأوروبي على إعادة وترحيل المهاجرين، ومن ثم رفض طلبات لجوئهم بعد وصولهم إلى البلدان الأوروبية إلى بعض بلدان العبور الآمنة، وتأتي تونس على رأس هذه الدول، وتجدر الإشارة إلى أن اتجاه الأوروبيين إلى مناقشة قانون الهجرة، يأتي بعدما اشتكت إيطاليا من تزايد أعداد المهاجرين الذين وصلوا إليها منذ بداية العام الحالي، الذين يقدر أعدادهم حتى الآن بـ45 ألف مهاجر، وهذا العدد الكبير يؤرق إيطاليا بشدة، لذلك كثفت من تحركاتها نحو تونس لمساعدتها على حل هذه الأزمة.
(&) الدافع الثاني: يتمثل في أن الزيارات التي أجراها المسؤولون الأوروبيون إلى تونس خلال الأيام الماضية، اشتملت بشكل خاص على الإعلان عن "مساعدات مالية" للنظام التونسي، مستغلين الأزمة الاقتصادية التي تمر بها الدولة الإفريقية، والتي تعاني من ديون تبلغ نحو 80% من إجمالي ناتجها المحلي، وهو ما دفعها للتوصل إلى اتفاق مبدئي مع صندوق النقد الدولي خلال أكتوبر الماضي، يتم بموجبه حصولها على قرض بقيمة 1.9 مليار دولار، لدعم الإصلاحات التي تقوم بها السلطة التونسية.
رد تونسي:
في ضوء الدوافع السابقة، يبقي التساؤل: هل تقبل تونس بهذه العروض الأوروبية لإنقاذ اقتصادها المتدهور؟ وللإجابة عليه، يمكن القول إن الظاهر إلى العلن حتى الآن وخاصة اللهجة الحادة للرئيس التونسي "قيس سعيد"، يدل على احتمالين:
(-) الأول: رفض الرئيس التونسي لعروض الدول الأوروبية، لإدراكه أن القبول بعرض كهذا سينجم عنه تفاقم الغضب الشعبي، وهو ما بدأ يظهر خلال الأيام الماضية، وذلك بإصدار عدة أحزاب ومنظمات حقوقية تونسية بيان، في 20 يونيو الجاري، حذروا فيه من قبول السلطة التونسية لأي اتفاق مع الاتحاد الأوروبي يتم بمقتضاه مقايضة الوضع الاقتصادي والاجتماعي الصعب في البلاد بصفقة لتوطين مهاجرين غير شرعيين بمخيمات بالأراضي التونسية، وإرجاع المهاجرين الذي دخلوا أوروبا عن طريق الهجرة غير الشرعية، واصفين تلك الصفقة بـ"المذلة والمهينة"، وطالبوا الرئيس "سعيد" بالكشف للرأي العام عن فحوى مباحثاته الأخيرة مع الوفود الأوروبية، وما يعتزم القيام به خلال الفترة المقبلة.
(-) الثاني: قبول الرئيس "سعيد" بالعروض الأوروبية، ولكن قد يتم التعديل عليها بطلب المزيد، إذ اعتبر البعض أن المساعدات المالية تعد "قليلة نسبيًا" لحل أزمة المهاجرين غير الشرعيين، وعليه، فإن تونس بحاجة لهذه المساعدات لإجراء إصلاحات تسهم في تعزيز الاقتصاد التونسي، وتقليل سياسات الاقتراض وتدشين مزيد من الاستثمارات بالداخل والخارج، وهذا الأمر، قد يناقشه الرئيس "سعيد" خلال لقاء آخر خلال الفترة المقبلة مع القادة الأوروبيين، خاصة أنه سبق ودعا إلى اعتماد "مقاربة جديدة" وتكاتف جهود دول الإرسال والاستقبال، لحل تلك الأزمة تقوم بشكل رئيس على "القضاء على الأسباب لا على محاولة معالجة النتائج"، وهذا السبب الذي دفع الرئيس التونسي خلال لقائه نظيره الفرنسي مطلع يونيو الجاري، للدعوة إلى تنظيم قمة تجمع دولًا من ضفتي البحر الأبيض المتوسط، لوضع حد لهذه الأزمة.
تأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن دول الاتحاد الأوروبي ستكثف تحركاتها خلال الفترة المقبلة من أجل التوصل لحل لأزمة المهاجرين غير الشرعيين التي تؤرقها بشدة، خاصة مع انتشار الجماعات الإرهابية في بعض الدول الإفريقية وتراجع اقتصاديات دول العالم جراء الحرب الروسية الأوكرانية، كما أن تونس لن تقبل بما يهدد أمنها واستقرارها، وستحاول حل أزمة الهجرة غير الشرعية مع دول إفريقيا جنوب الصحراء من جهة، ومع الدول الأوروبية، ولكن بما يضمن مصالحها من جهة أخرى.