الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

كيف تفاعلت مصر مع أزمات الإقليم؟

  • مشاركة :
post-title
دول المنطقة العربية

القاهرة الإخبارية - د. مبارك أحمد

ارتكزت الرؤية المصرية فى تفاعلها مع أزمات الإقليم التي جاءت نتاجًا لما أطلق عليه "ثورات الربيع العربي" على أسس من المبادئ الراسخة أهمها: الحفاظ على وحدة الدولة العربية الوطنية، ودعم تماسك الجيوش العربية باعتبارها ركائز الحفاظ على وحدة الدولة وسلامتها الإقليمية، ومكافحة الإرهاب واعتباره ظاهرة تحتاج لتكاتف كافة الدول، لكونه ظاهرة عابرة للحدود تحول دون استقرار وتنمية المجتمعات وتؤدى إلى تقسيمها وتفككها وإشاعة الفوضى داخلها، والاتجاه نحو التهدئة مع دول الإقليم غير العربية، والسعي لتسوية أزماتها مع دول المنطقة عبر الحوار البناء فى إطار الحفاظ على المصالح الوطنية للدول العربية.

توجهات متعددة:

ارتكزت الرؤية المصرية فى تفاعلها مع أزمات الإقليم على العديد من التوجهات كان أبرزها:

(*) الحفاظ على وحدة وتماسك الدولة العربية: ارتكزت الرؤية المصرية فى تحركها إزاء أزمات الإقليم بالحفاظ على وحدة وتماسك الدولة العربية، لاسيما بعد تزايد أدوار الفاعلين من غير الدول وتأثيراتهم العابرة للحدود عقب أحداث 2011.

فيما يخص الشأن السوري سعت مصر للتوصل إلى حل سياسي يضمن بقاء الدولة السورية موحدة، لا سيما بعد تعقد الصراع وتحوله إلى حروب بالوكالة بين قوى إقليمية ودولية أدت فى نهاية المطاف إلى مأساة إنسانية سقط خلالها ما يربو إلى 150 ألف قتيل، وما يقرب من نصف مليون مصاب، وحوالي 4 ملايين لاجئ ومهاجر سوري فى دول الجوار وغيرها.

وعلى المستوى الليبي قامت مبادرة دول الجوار التي تبنتها مصر على ثلاثة مبادئ وهي: احترام وحدة وسيادة ليبيا وسلامة أراضيها، وعدم التدخل فى شؤونها الداخلية والحفاظ على استقلالها السياسي، علاوة على الالتزام بالحوار الشامل ونبذ العنف. وتولت مصر فى آلية دول الجوار رئاسة اللجنة السياسية فى حين تولت الجزائر رئاسة اللجنة الأمنية سعيًا للحفاظ على وحدت الدولة الليبية بعد تنامي النزعات الانفصالية فى الأقاليم الثلاثة الكبرى "برقة، وفزان، وطرابلس"، وذلك من خلال تقديم الدعم للمؤسسات الشرعية المنتخبة ومساعدتها فى التعافي لمواجهة الخطط الرامية لتقسيم الدولة وتحويلها إلى بؤر إرهابية تستغلها التنظيمات المتطرفة فى تهديد الأمن الإقليمي.

(*) محاربة الإرهاب: تجسدت الرؤية المصرية التي طرحتها القيادة السياسية فى محاربة الإرهاب على ضرورة التركيز على شمولية المواجهة، بمعنى أن يكون أي تحالف دولي لمكافحة الإرهاب تحالفًا شاملًا لا يقتصر على مواجهة تنظيم بعينه أو القضاء على بؤرة إرهابية بذاتها، ولكن يمتد ليشمل كافة البؤر الإرهابية سواء في منطقة الشرق الأوسط أو في إفريقيا.

كما تستند مصر فى رؤيتها على محورية العامل الاقتصادي والتنموي وضرورة أن يحتل أهمية فى اِستراتيجية مكافحة الإرهاب، إذ إن الفقر يمثل بيئة خصبة لنمو الإرهاب والفكر المتطرف، ومن ثم فإنه من الأهمية أن يعمل المجتمع الدولي على تحسين الأوضاع الاقتصادية – الاجتماعية لدول المنطقة، فضلًا عن تجفيف منابع الدعم المالي، والتحذير من تبعات انخراط المقاتلين الأجانب فى بعض دول الصراع بمنطقة الشرق الأوسط، ولاسيما سوريا والعراق، ودورهم في تأجيج الصراع من جهة، فضلاً عما يمثلونه من خطر حال عودتهم إلى دولهم الأصلية من جهة أخرى.

(*) رفض تأجيج الخلافات الطائفية والمذهبية بدول الإقليم: على الرغم من وجود اتجاهات خارجية سعت لاستخدام المتغير المذهبي للتسريع بوتيرة التقسيم والتفتيت لوحدات النظام الإقليمي العربي، إلا أن مصر دعت لأهمية تدارك هذه الأبعاد الجديدة التي بدأت تطرأ على صراعات المنطقة، والتي استهدفت تأجيج الخلافات الطائفية والمذهبية، وهي الصراعات الناجمة عن تهميش بعض المذاهب أو الطوائف وإقصائها، أو استغلال وتوظيف هذا الصراع فى تحقيق التوازن الإقليمي الذى يضمن مصالح الدول الكبرى من خلال طرح فكرة المحورين "السُني" و"الشيعي".

(*) الدعوة لإخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل: شكلت دعوة مصر لإخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل أحد ملامح توجهاتها الخارجية.

وتقوم الرؤية المصرية في هذا الصدد على ضرورة إخضاع كافة المنشآت النووية الموجود بالمنطقة للتفتيش الدولي، وفى مقدمتها البرنامجين النوويين الإسرائيلي والإيراني. وتستهدف مصر من هذا التوجه أمرين؛ الأول هو منع سباق التسلح بالمنطقة، والذي يشكل اندلاعه تهديدًا لتوازنات الأمن الإقليمي. أما الأمر الثاني وربما الأهم يرتبط بتوجيه الإنفاق إلى المشروعات التنموية التي تحتاجها دول المنطقة التي تعاني من تراجع معدلات التنمية وانتشار البطالة بين صفوف الشباب، وتراجع جودة الخدمات العامة من صحة وتعليم وإسكان.

فاعلية السلوك:

انعكست الرؤية والتوجهات المصرية على السلوك المصري إزاء أزمات الإقليم، وهو ما تجسده التفاعلات التالية:

(&) عودة سوريا إلى الجامعة العربية: شكلت عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية بعد 12 عامًا من تعليق العضوية، تجسيدًا للرؤية المصرية التي ارتأت ضرورة الحفاظ على وحدة الدولة السورية، لا سيما بعد أن وجدت التيارات الإرهابية والمتطرفة ملاذها الآمن بعد اندلاع الأزمة السورية وتحول نتائجها إلى ما يشبه الحرب الأهلية بين مكونات المجتمع. لذلك يعد قرار جامعة الدول العربية في 7 مايو 2023، بعودة سوريا لشغل مقعدها واستعادة عضويتها فى كافة اجتماعات مجلس الجامعة، واستئناف مشاركة الوفود السورية فى جميع اجتماعات اللجان والمنظمات والأجهزة التابعة للجامعة انتصارًا للرؤية المصرية، لا سيما وأن قرار عودة سوريا للجامعة العربية مهد له اجتماع عمّان التشاوري ضمن مسارات أخرى، وهو الاجتماع الذي عقد مطلع مايو 2023 وضم مصر والأردن والعراق والسعودية وسوريا. وقد سبق هذا القرار محطات رسمية وشعبية شاركت فيها مصر كان من بينها زيارة وفد من الاتحاد البرلماني العربي إلى سوريا في فبراير 2023، حيث ضم الوفد رئيس الاتحاد البرلماني العربي ورئيس مجلس النواب العراقي محمد الحلبوسي، ورؤساء مجلس النواب فى مصر والإمارات والأردن وفلسطين وليبيا، إضافة إلى رؤساء وفدي سلطنة عمان ولبنان، فضلاً عن الأمين العام للاتحاد البرلماني العربي.

(&) خفوت الإرهاب: شكل الخفوت النسبي للعمليات الإرهابية في دول الأزمات العربية مؤشرًا على تعافي تلك الدول، فقد أعلن العراق خلو أراضيه من سيطرة تنظيم "داعش" الإرهابي بعد مقتل وتصفية العديد من قيادات التنظيم، كما تتجه سوريا للتعافي بعد فرار غالبية عناصر التنظيم والبحث عن ملاذات بديلة آمنة لأنشطتها، حيث وجدت فى إفريقيا مناطق حدودية بعيدًا عن السيطرة كبيئة مناسبة لجذب تلك التنظيمات.

وقد تنوعت الجهود المصرية الداعمة للعراق من خلال تعزيز الجهود العربية والدولية لتعزيز الانفتاح العراقي على محيطه العربي، وهو ما تجلي فى تدشين الآلية الثلاثية التي تضم مصر والعراق والأردن منذ مارس 2019، وهي الآلية التي تبادلت الاجتماعات على مستوى القادة والوزراء ونجحت فى وضع ركائز للتعاون الثلاثي جعل البعض يعتبرونه قاطرة للتكامل العربي. كما شاركت مصر فى دورتي مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة، والذي وضعت أهدافه لتتوافق مع رؤية مصر في دعم استقرار العراق وتعزيز علاقاته وجعله جسرًا للتواصل بين جيرانه.

(&) تبني التهدئة فى ليبيا: تبنت مصر دعم وحدة وسيادة الدولة الليبية والحفاظ على تماسك مؤسساتها، لا سيما القوات المسلحة باعتبارها الداعم الرئيسي للاستقرار، كما رفضت مصر أي توظيف للأزمة الليبية فى أتون الصراع الدولي والإقليمي فى ظل توظيف مرتزقة من الأجانب لخدمة مشروعات تلك القوى على الأراضي الليبية، وهو الأمر الذى جعل الرئيس السيسي في يونيو 2020 يحدد ما وصف بالخط الأحمر في سرت والجفرة، حرصًا على سيادة ووحدة الأراضي الليبية، ومنعًا لوجود أي تنظيمات إرهابية أو متطرفة أو مرتزقة، ومؤكدًا أيضًا على أن ليبيا لن يدافع عنها سوى أهلها، وداعيًا إلى الحفاظ على الوضع القائم حاليًا في ليبيا دون تغييره، والبدء فورًا في مفاوضات سياسية لإنهاء الأزمة.

(&) الوساطة في الأزمة السودانية: تنوعت الوساطة المصرية لتسوية الأزمة السودانية التي اندلعت منذ 15 أبريل 2023 على خلفية الاشتباكات بين قوات الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان، والدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو المعروف بـ"حميدتي". ففي اليوم التالي على اندلاع الاشتباكات وفي 16 أبريل 2023 أعرب الرئيسان المصري عبد الفتاح السيسي والجنوب سوداني سلفا كير ميارديت خلال اتصال هاتفي بينهما عن استعداد القاهرة وجوبا للقيام بالوساطة. كما دعت مصر والسعودية إلى اجتماع طارئ على مستوى المندوبين الدائمين بجامعة الدول العربية، لمناقشة تطورات الوضع فى السودان.

(&) المشاركة فى مجموعات الاتصال العربية: شاركت مصر فى العديد من مجموعات الاتصال التي شكلتها جامعة الدول العربية، بهدف تعزيز المشاورات والاتصالات اللازمة بين الأطراف المعنية بأزمات، سواء على المستوى الدولي لتداعياتها على الدول العربية أو على المستوى الإقليمي ومن تلك المجموعات ما أقره مجلس وزراء جامعة الدول العربية خلال دورته الـ 157 بتشكيل مجموعة اتصال وزارية لتولي المشاورات والاتصالات مع الأطراف المعنية بالأزمة الروسية الأوكرانية، والمساهمة في إيجاد حل دبلوماسي، وتكونت مجموعة الاتصال من 7 دول عربية هي: مصر، والجزائر، والسعودية، والإمارات، والعراق، والأردن، والسودان.

وإقليميًا شاركت مصر في مجموعة الاتصال التي تشكلت بشأن سوريا، وهو القرار الذي صدر بعودة سوريا للجامعة العربية واستئناف مشاركة وفودها في اجتماعات مجلس جامعة الدول العربية وجميع المنظمات والأجهزة التابعة لها اعتبارًا من 7 مايو 2023، كما تضمن القرار أيضًا النص على تشكيل لجنة اتصال وزارية مكونة من مصر، والأردن والسعودية، والعراق ولبنان، والأمين العام لجامعة الدول العربية، لمتابعة تنفيذ بيان عمّان والاستمرار في الحوار المباشر مع الحكومة السورية، للتوصل لحل شامل للأزمة السورية يعالج جميع تبعاتها وفق منهجية الخطوة مقابل خطوة.

وفيما يخص الأزمة السودانية صدر عن الاجتماع قرار من ضمن بنوده تشكيل مجموعة اتصال عربية وزارية من كل من مصر والسعودية والأمين العام للجامعة العربية تتولى التواصل مع الأطراف السودانية والدول المؤثرة إقليميًا ودوليًا والمنظمات والتجمعات الدولية ذات الصلة بالأمر بهدف التوصل إلى تسوية للأزمة، وبذل المساعي من أجل الوصول إلى وقف كامل ومستدام لإطلاق النار والعمل على معالجة أسباب الأزمة بما يلبي طموحات الشعب السوداني وتطلعه إلى الاستقرار والأمن. كما نص القرار على أن تتولى مجموعة الاتصال التنسيق مع الأمانة العامة والمنظمات والهيئات الإغاثية الدولية والأممية لتوفير الدعم الإنساني والطبي العاجل للمواطنين والنازحين داخل السودان، وكذلك للباحثين عن ملاذ آمن بدول الجوار التي تستقبل لاجئين لمساعدتها على تحمل الأعباء المتزايدة.

مجمل القول؛ إن تفاعل مصر مع أزمات الإقليم ارتبطت ببعدين، الأول هو رؤية وتوجهات خارجية ارتكزت على محورية الحفاظ على وحدة وتماسك الدولة العربية وسيادتها وسلامتها الإقليمية، والثاني وربما الأهم هو امتلاك القدرة على ترجمة تلك التوجهات إلى سلوك مؤثر على أرض الواقع. وهو الأمر الذي كشفته خبرة العقد التالي لما وصف بـ"الثورات العربية"، والتي عكست إدراكًا مصريًا مبكرًا لمآلات أزمات الإقليم، وكيفية تسويتها لصالح مشروع الوحدة والاستقرار ضد مشروع التفتيت والتقسيم والفوضى التي لم تكن خلاقة أبدًا.